الأحد، أبريل 21، 2024

ونفسي والهوى

لم أتمنَّ غير هزيمة أخرى للكراهية،  ونصر مُؤَزَّرٍ للحب. قاتلتُ واستمتُ. لم أهزِم أو أُهزَم. وقفت الكراهية مقابل الحب وجهيّ مرآة.

قالت الكراهية: أنا أماني النفس المكسورة، وقال الحب: تلبسُ أماني النفسِ وجهي، وتخاطبكم.

لن تذوقوني إلا أن تغمضوا أعينكم عن الصورأيها العطشى، وتشربوا هذه النار التي تكرهها نفوسكم.

أنا هناك ماء بارد. 

إلى الآن لا أقوى على تصديق قلبي، وإغماض عيني. لكني أتدرب كل يوم.

 



الخميس، أبريل 18، 2024

إلى ماتيلدا ٢

إزيك يا ماتيلدا؟ جسمك ارتاح في قاع البحر، وروحك بتلف الفضاء؟ ولا إيه؟

كلامك كان قليل يا ماتيلدا طول عمرك. ولما بتتكلمي كلامك بيأثر في اللي حواليكي. ما أعرفش حقيقي لأنك كنتِ بتقولي كلام عميق وحكيم وكده ولا عشان جميلة، ولا لأن كلامك قليل فبيتسمع باهتمام؟ 

 باحب الناس (اللي في قلبها على لسانها) وبأحس معاهم بالأمان. والأمان عندي عزيز، لأني عرفت التعدي والخوف والقلق فترات في حياتي لم أكن أملك فيها إلا أن (أعمل ميت) لحد ما المفترس/أو العاصفة/ أو الموجة العالية تعدي. فعشان كده الإحساس بالأمان شيء عظيم ومش متاح طول الوقت، وبأسعى إني أكون أحد مصادره للي حوالي.

ورغم كده ما بأعرفش أعمل ده (أقول اللي عايزه أقوله مباشرة ) طول الوقت. بأبقى عايزة أقول كلام واضح وبسيط زي (بحبك)، (وحشتني)، (ايه الحلاوة دي)، (زعلتني). بس ما بيخرجش في وقتها. مش كل وقت بنعرف نقول الكلام البسيط ده حتى لو لإخواتنا اللي بقالنا سنين ما شفناش بعض، فبنلف حوالينها بالاهتمام بتفاصيل هامشية و(إزيك؟ وعامل إيه)، وأحوال الطقس، وأكلت إيه؟ واتفرجت على إيه؟

في أوقات مثلا بنبقى عايزين نتماسك وما نطلقش العنان لعواطفنا عشان محتاجين نتقوى (أو ممكن مش حاسين إنه حقنا ناخد مكان/ نشغل حد)، أو عشان الأحسن كده، أو أي أسباب تانية كتير.

فأنا الحقيقة أحتج على الكلام اللي بيهرب مني في المحادثات المباشرة. رغم الجمل الطويلة  اللي بأحاول أوضح فيها، أو ألاحق بيه أفكاري. يمكن الكتابة بتعوض -أو نأمل ذلك يعني- أو بتخليني -كشخص بصري- أشوف اللي في دماغي وتديني فرصة أعرف إن كنت عبرت عن المشاهد والأفكار والمشاعر اللي جوايا صح ولا.

عمومًا هو الكلام هدفه الأول التواصل، وحفظ التاريخ، وتيسير الحياة محاولة مننا كبني آدمين للبقاء ومعافرة الموت.

***

امبارح قلت لحد وأنا بأهزر إنه اللي يعرفني لعمق معين لازم يموت -كفكرة مش في الحقيقة-. أظن إن دي فكرة مغروزة جوانا إنسانيًا، أو ليها تاريخ يعني. بيعملها المتسلطين والطغاة طول الوقت، زي جزاء سنمار كده. وطبعا دافعها الخوف (معروفة) بألوانه، أو الرغبة اللا إنسانية في التحكم في الخطاب أو القصة، أوالبدء من جديد على نضافة، أو استعادة البراءة ..أو أي هجص غير واقعي ومش من تركيبة الإنسان المتصالح مع طبيعته.

لكن في الحقيقة يا ماتيلدا اللي عرفونا بعمق عُزاز وحبايب طالما اهتمينا ما نأذيش بعض. والواحد هايعوز إيه من أخوه الإنسان غير إنه ما يظلموش ولا يأذيه؟ حاجة زي كده اللي دخلتهم بيتك واحترموا ده وصانوه، الحب بقى إنهم يفضلوا في ظهرك، ويدافعوا عنك. بينك وبينهم سلام وثقة. ده يخلي كل واحد فيكم يمشي في الغابة دي والوحوش أقل بواحد.

الحقيقة كمان يا ماتيلدا كل اللي الواحد عايزه إنه يحاول يقرب المسافات ما بين الحرية اللي بيطمح ليها، وقيود الواقع الكتير جدا.

إنك تعيش في دماغك وما تحتكش بالواقع كتير، بيدي حرية كبيرة جدا في التفكير، والحدود بتتلاشى. كمان ممكن يتلاعب بحجم الحاجات الحقيقي، فيضخم حاجات صغيرة ويصغّر حاجات مهمة. الواقع بقى زي المادة كده ليه قوانين محددة تماما لازم تتعامل بيها، وبيدي كل حاجة حجمها -في الغالب-.

الحرية دي بننفس عنها بالفن. الرسم والكتابة والتصوير والنحت والتطريز والرقص إلخ إلخ. وده برضو عشان يستمر ويبقى أصيل وصادق وخالد (يعيش أطول من صاحبه على الأقل) لازم بيبقى في موازنة بين التعامل مع الواقع، وأخد مسافة منه أو الانعزال اللي مش بس بيوفر تأمل وتبصر، بل كمان بيمدك بجرأة أو بقدرة عمومًا على التعبير عن الأفكار والمشاعر زي ما هي. وليتعامل كل من يراها بطريقته.

***

مفيش حاجة حقيقية في الحياة وكبيرة سهلة إلا في الظاهر. وكلمة زي (بحبك) زي الكرزاية الحلوة على التورتة، التورتة لازم مكوناتها تبقى طعمة عشان المنتج النهائي يبقى طِعِم. ثم تيجي بهجة العين بالزينة والكرزاية.

الحب بين الناس شغل مستمر من العناية واليقظة والحضور في الذهن والجهاد مع النفس إنها تساع نفسها وغيرها -قدر استطاعتها-. (لو احنا جوه الحب اللي هو الشغل المستمر ده، ساعتها الكلام بيأكد ويطمن ويذكر، لكن مش هو اللي بيبني الحب.

عشان كده لو بنعبر عن حبنا لشيء أو شخص بالكلام معظم الوقت، فهايفضل في شك كبير لو الواقع ما اختبرش الكلام ده باللقاء والاختلاف والتعامل مع الخلاف والرعاية والعناية إلخ، وفي الأشياء برضه لازم الواقع يختبر حبك ليها بالتعامل معاها وتحمل مشاقها والوقت اللي بتاخده منك إلخ إلخ.

عشان كده لما نعرف ناس جديدة ونحبهم وبعدين نقولهم، الأولى بتبقى بنعرفهم، وبعد كده بنفكرهم ونطمنهم بس. 

والواحد مفرهد يا ماتيلدا. وكفاية مواعظ وحكم ع الصبح. المرة الجاية هاحاول أقول أناول الكرزاية للي عايزة أناولها له، أو سأبتلعها في صمت. وهاجيلك بالحكايات بعد كده يا ماتيلدا أبرك -بشبش الله الطوبة اللي تحت راسك- وريحك من اللف ع المجرات.

الثلاثاء، أبريل 02، 2024

سارح في غربة بس مش مغترب*

 ننسى في غمرة تركيزنا في فكرة أننا متفردون وكل منا رهين تجربته، أننا متشابهون كذلك. 

انتبهت لهذه الفكرة مؤخرًا. ليس بالشكل العقلي المنطقي، ولكن عمليًا. إحساس الوحدة خصوصًا في المعاناة يتضخم جدًا عندما لا تجد حولك من هم مثلك في تلك المعاناة.

لكن الحقيقة أننا لسنا وحيدون في أي معاناة، نهائيًا. كل معاناة أو صعوبة ما تلاقيها ستجد من يشاركك إياها، سواء بنفس ظروفك، أو بظروف أخرى لا تخطر ببالك. 

لذا من المفيد لأي شخص البحث عمن يشاركونه الهمّ، أو التجربة الإنسانية، حتى وإن لم يتواصل معهم، فسيشعر بالمشاركة وأنه واحد من كثير، وأنه يوجد حل ما، أو طريقة للتعايش مع المشكلة أو هذه التجربة.

انتبهت لهذا عندما كنتُ أبحث في موضوع السلوكيات الإدمانية، ووجدتُ أن هناك إجماعًا على أهمية الزمالات، أو مجموعات الدعم. 

كما أن لدي إطلاع على أهمية مجموعات الدعم لذوي أمراض المناعة المزمنة مثل التصلب المتعدد. وهي بالفعل مفيدة جدًا لأصحابها وذويهم. 

أريد أن أتذكر هذا، لئلا تسرح بي نفسي، وأروح معها بلا تفكير، وأغرق في هم لا آخر له. لستُ وحيدة في أي ألم أشعر به مهما كان غريبًا. خبرتُ ذلك، ورأيتُ ذلك في أغرب الأماكن، وبخوض أكثر التجارب غرابة. 

نحن متشابهون جدًا رغم تفرد كل منا. نحتاج هذا التشابه بقدر ما نحتاج لذلك الاختلاف.فلأتذكر هذا.

__________________

* من قصيدة لصلاح جاهين

إلى ماتيلدا

 شفتك إمبارح وإنتي بتنتحري بالقفز وسط الموج الهائج في يوم عاصف، ليجد زوجك وحبيبك رسالة بتقول ما معناه إنك عايزك تموتي وإنتي في عز الحب، ومش عايزة تقعدي في الدنيا لحد ما وهج الحب يخفت من عنين حبيبك، أو تكبري وتشوفي شبابك وهو بيروح. 

وفضل محبوبك منتظرك في محل الحلاقة بتاعكم للأبد بقى، ينتظر بدأب، ويرقص بهبالة محببة على المزيكا الشرقي اللي بيحبها.

فيلم كامل يامؤمنة قايم على فانتازيا ولد صغير اشتهى الست الكوافيرة لما قصقصت شعره، فقرر يتجوزها، وباباه ضربه بالقلم على وشه لما أعلن عن رغبته دي وهما بيتغدوا ع السفرة. 

يكبر ويلاقي ست حلوة ماسكة محل كوافير/حلاقة، ويلاقي بقى حلم حياته ومنتهى آماله. والاتنين بقى لا يأكلان ولا يمشيان في الأسواق، نظرات هائمة، وحب مولع في الذرة. وهكذا فهمت منين بالضبط سحلتنا الرومانسية. 

دلوقتي لو عملوا إعادة للفيلم ده، هايكون عندك اكتئاب عميق خفي، وهو لاجيء مثلا، ولازم يبقى في شخصية ما ولو ثانوية ذات ميول مثلية. العالم اتغير يا ماتيلدا. واللي كتبوا قصتك وصوروها، بيتكلموا بلسان جيل سابق ساهم في تكوينا، وفي مشاكلنا اللي ليها دعوة إزاي شايفين العالم.

***

في كاتب مات من يومين الله يرحمه، برضو بعد مرض، وبرضو وهو صغير نسبيا. وقبلها كان فيه محامي من جيلنا مات متغرب ووحيد بره (مش هانقدر نقول مات في المنفى عشان إحنا مش في عصر أحمد عرابي، دلوقتي بنتنفي من غير ما يبقى حكم رسمي بالنفي).

كلها أخبار بتفكرني إن الموت لا مهرب منه، ومش هاينتظر لما تحقق أحلامك، أو تصحح أخطاءك. وكل الحكم محفوظة خلاص، فلا داعي للتكرار.

كل ده وسط أخبار كل يوم عن غزة. وياه على كل الحقايق اللي اكتشفناها واللي لازم نفتكرها ونفكر عيالنا بيها يا ماتيلدا.

عارفة لما كنت في منتصف العشرينيات من عمري يا ماتيلدا كنت بأغرق في حزن ناقع يعني وليل بهيم، وماخطرش ببالي نهائي إنه اكتئاب، وإنه دلالة على مشكلة لازم تتعالج، كل اللي في سني تقريبا عدوا على الليلة دي. المهم إني احتفظت بده لنفسي كالعادة، وده معناه مسافات طويلة جدا أمشيها وحدي تماما، أهيم على وجهي حرفيا. كان في مقبرة بابها مفتوح في نص شارع أحمد عصمت، كنت بأعدي عليها على طول في الطريق لبيتنا، أخدت فترة أدخلها وأقعد هناك ساعة مثلا، أقرأ الفاتحة وأدعي لكل الناس، وأتخيلني مكانهم، أو أتمنى كده. كل مرة أروح أقف فترة أطول عند قبر بعينه وأقرأ الشاهد وأتخيل قصته أو قصتها. كنت بأرتاح شويه كده وأمشي.

 ***

الموت مش مخيف لي دلوقتي. كان مخيف جدًا لما ماما عرضت عليّ تعلمني تغسيل الموتى (وهو فرض كفاية يعني، لازم مجموعة من الناس تتعلمه عشان تعمله وقت الحاجة)، ثم حصل وحضرت وفاة والد صديقتي وجارتي. شفته قبلها بيوم ولأول مرة يبص لي جامد، لدرجة ظنيت هايقولي حاجة بس ما قاليش. ورحت المقابر معاهم وبِتّ معاهم أيام العزا، بعدها بفترة حضرت وفاة والدة صديقتي نفسها، وقعدت مع جثمانها ليلة لحد ما اتدفنت الصبح. أفتكر يومها حضرت الغُسل، ومن بعده الدفن، والعزا اللي فيه القهوة المغلية ما بتنقطعش عمايلها من ع النار. فاكرة الأيام دي كويس، كنت يا إما بأعمل القهوة أو بأقدمها، فاكرة ريحة القهوة والسجاير. فاكرة البكا والضحك والأحضان، ولحظات الهدوء ولحظات الصخب، وملابس الصلاة البيضا القطعتين خمار وتنورة. وانحباس الكلام عن صديقتي وكلامنا بالكتابة والإشارة.

موت هو جزء من الحياة، مسالم وطبيعي، فيه ألم وفيه مساندة على تحمله. فيه تكاتف وفيه رحمة ومحبة.

***

وحضرت الموت الوحشي اللي سببه ظلم الإنسان لأخيه الإنسان، وخوفه وحبه لذاته فوق أي شيء. حضرت مضطرة غير راغبة. كنت كفرت بالسياسة واعتزلت النزول للمشاركة في أي شغل مع ناس بعد انتخابات الرياسة. ألحت قريبة لي علي لأن في إصابات ومحتاجين متطوعين عموما وفي الإسعافات. رحت ومش هانسى محاولتي البائسة لتوثيق الوفيات بتصوير وجوه الجثث وبطايقهم. تقريبا خمس جثث، مااتبقاش منهم غير بيانات شخص كريم واحد (الله يرحمهم جميعًا) بلغته لجمعية حقوق الإنسان، عشان يتوثق في الآخر كرقم. اللي فاكراه دلوقتي ومش بدقة هو وشه، وإنه كان شغال في التحاليل الطبية، وإن كان الهدف من تصوير ده هو إن أهله يعرفوا. وما أعرفش إلى الآن أهله عرفوا ولا لا. ومصير الأربعة التانيين إيه وهما من غير بطاقات.

بأفكر في صديقتي اللي كانت مهمتها تصوير مئات الجثث في مكان الحدث عشان توثيقها، ما بقيناش نتكلم حاليا بس عند بعض في الفيسبوك، بأفرح جدًا لما ألاقيها مستمرة في حياتها ومبسوطة وكل إنجاز ليها بيفرحني. صلبة كده وكنت بأتطمن لما تكون معايا من أيام محمد محمود.

وبأفتكر إنه أُكلنا يوم أكل الثور الأبيض يوم ماسبيرو والله. والظلم ظُلمات يوم القيامة. والرحمة والعدل مهمتنا في الأرض يا ماتيلدا، وكده كده هي مدة قصيرة وهانمشي.

***

دلوقتي الموت جزء من أفكاري اليومية، ومش بيفزعني ولا بأطلبه (أحيانا بأقوله مش ياللا بقى، بس من غير تشنجات زي كلام ست عجوزة مع قطها).

 السنة اللي فاتت دي عديت بواحدة من أغرب التجارب في حياتي، وتمنيت معها لو أموت. تمنيت ده من قلبي ودعيت بحرارة. لأن مابقاش من نفسي شيء أعرفه، ومش عايزة أحيد عن الطريق اللي ماشية فيه، وفقدت الاستمتاع بفعل أي شيء، وحسيت بتيه عظيم وحيرة. مشاعري كانت عنيفة وغريبة.

واحدة واحدة بقيت ماسكة في الدعاء (ربِّ أمتني إن كان الموت خيرًا لي، وأحيني إن كانت الحياة خيرا لي)، ويعني مع الوقت أذكر نفسي إنه كده كده الموت جاي. إنتِ حية، والعمر قصير. فبجلي ربيع العمر القصير -زي ما بيقول الشاعر-.
واتعلمت كم حاجة عن نفسي، وإيه اللي محتاجة أنتبه له في تعاملي من العالم، وإن المشاعر رُسل مش طغاة، نسمعهم ونشوف هانعمل إيه باللي اتعلمناه، ونجدد نفوسنا ونوسع رؤيتنا، ونمضي في طريقنا بالحب والرحمة.


دلوقتي يا ماتيدا ممكن أنعس عادي على أرض الغرفة وأنا نايمة على جنبي، وساندة راسي على دراعي، وأنا بأنعس بأشوف صديقتي قدامي (ربنا يرحمها) والدم بيخرج من مناخيرها وبقها وأذنها، وتنفسها تقيل زي النايم، وأنا قاعدة جنبها على ركبي في الأسفلت، وسانداها عشان ما تنامش على وشها، وتفضل تتنفس. بأدعي في صمت، وهادية تماما ومستنين الإسعاف، وابنها بينادي عليها، وكل حاجة متنتورة حوالينا، والعربية مقلوبة ورانا، وابن تاني ميت، والتالت بيحتضر، والعربية مقلوبة.

الشمس بتغيب، وأنا عني بتقفل وأروح في النوم على السجادة في بيتي.

والنهر بعيد يا ماتيلدا،

والحب واسع يا ماتيلدا

والله غالب، والله كبير.


السبت، مارس 30، 2024

تجارب جديدة ومخاوف قديمة

 حضرت اليوم مباراة كرة قدم يلعبها أطفال أصدقاء لنا في الفريقين المتنافسين. انشغلت في البداية في هاتفي أتصفح قليلا وأقرأ قليلا من كتاب ما. ثم مع حماسة الآباء والأطفال أغلقت هاتفي واستمتعت بالمشاهدة. حاولت أن أخفض السور العالي الوهمي الذي بيني وبين كل ما أعايشه تقريبا. 

استمتعت بحماسة الأمهات، ومع الوقت اندمجت في اللعبة واللاعبين. توترت عندما وجدت من هؤلاء الأطفال من يأخذ اللعب بجدية ويتوتر لدرجة البكاء في نصف اللعبة، ومن يستمتع فعلا ولا يهتم أكسب أم خسر.

تذكرت لعبي مع إخوتي على بحر جدة كل جمعة. واحتفاظهم لي بدور حارس المرمى.

لم أستطع التوقف عن التفكير في نقطة معينة. أن هذه تجربة عادية لأناس كثيرين (الأم التي تذهب بأولادها للنادي وتشجعهم)، وأنها تجربة جديدة لي لا تاريخ لي معها. وأنني أخوض تجارب جديدة عليّ، رغم عاديتها الشديدة لآخرين. أشعر بسعادة أحيانًا لأنني أخوض ما يكسر حلقة ما من حياة صُورت لي أنها المُثلى، أعيش حياة أنا من اختارها، لا تشبه حياتي في طفولتي ولا حياة أبوي في أي شيء. وهذا يشعرني بمخاوف كثيرة: الخوف من الحرية في الاختيار، والخوف من أبدو ساذجة تمامًا في وسط أُناس هذه حياتهم التي يعرفون كيف يتصرفون فيها جيدًا. والخوف من إساءة التصرف، وتضييع فرصة ما أفضل.

حملت مخاوفي الغريبة معي وقلت لها اليوم (بصي الكورة دي هناك)، واستمتعت.

المفترض أني اعتدت على أن أكون المختلفة وسط المجتمع الذي أنا فيه منذ نشأتي تقريبا، ومن المفترض أن هذا عودني على أن أتصرف دون إرشاد ما مُسبق، أو أن أرتجل. وأنا ماهرة في الارتجال في أغلب المواقف (بقدر مهارتي في التورط في مواقف غريبة تماما)، وفي التصرف في مواقف الطوارئ. ففي الطواريء يكون صوت الدافع للتصرف أعلى من صوت أي خوف.

لكني في المواقف اليومية التي تتطلب مهارات مبنية على الاستقرار والروتين الثابت أحتار دوما وأقع في حيص بيص، ربما لأني أسمع صوت المخاوف وأحس بها بوضوح مُربك. وهأنذا بعد أن تنبهت لعدم قدرتي على الالتزام بأي روتين مدة ٣ شهور متواصلة تقريبا أحاول أن أطفأ سارينة الطواريء داخلي وإبطاء إيقاعي قليلاً. وهو أمر غريب بعد كل هذا الاعتياد، وليس سهلا أبدا. لكنه ممكن.. أظن ذلك.

 ***

في نهاية اليوم، حدث موقف ما انفعلتُ فيه على ابنتي لأنها أكلت شيئًا ما لم أعرف من أين جاءت به، كما أنها تتصرف بعصبية مفرطة.

لا أعرف بالضبط القدر المضبوط من الكلام المناسب الذي يمكنها استيعابه. كم مرة يجب أن أكرر المعلومة، ما هو القدر الكافي من النصح الذي بعده ينقلب الكلام توبيخًا؟ أراجع نفسي كل مرة وأحرص أن أعتذر منها إن بلغ انفعالي حدًا معينًا، وأحتضنها كثيرًا. لكني في حرب دائمة مع كل هذه المجهولات، ومع الخوف اللعين. 

ما أفعله هو أنني أشيح بقلبي عنه وأتصرف. أحاول أن أحسن من نفسي. وأضبط نفسي التي تجد أقرب حل للمخاوف في التهرب. 

كنتُ أقول في أول زواجي أني لا أريد الإنجاب، لأنني أعرف مسؤولية الأطفال جيدًا، وهي أمر صعب، تفوق صعوبته أي متعة مُنتظرة. كما ظننتُ أنه يتطلب آباءً يعرفون ماذا سيعلمون أبناءهم، لديهم ثقة في أنفسهم تمكنهم من إرشاد إنسان جديد بريء لدنيا لا يعرفون المتوقع منها بالضبط. إضافة طبعا لصدمات كبرى في كل شيء عايشتها بعد الثورة لم تترك من الثوابت التي اعتقدت فيها من قبل ما يكفي.

 في ذهني القول المأثور: "لا تُكْرِهوا أولادكم على آثاركم، فإنهم مخلوقون لزمان غير زمانكم". وأيًا كان قائله فهو قاعدة عندي أؤمن بصحتها. وإن كان زماننا مختلف عن زمان آباءنا، فكذلك أبناؤنا.
وهذا يعني أن ما ينبغي الانتباه إليه معهم هو تعليمهم المهارات التي يمكن أن تساعدهم، وهذا يعني أن نتقن نحن المهارات الحياتية التي نود تعليمهم إياها. ليست كلها. لكن ما يكفي على الأقل. وبقدر استطاعتنا. 

بالإضافة لأهم شيء في الوجود وهو الحب والرحمة والرعاية التي تحيط كل كل شيء.

ظننتُ أن تطبيق هذا أسهل ما يمكن. واتضح لي أن محبتك اللامحدودة لأبناءك لا تعني أنك ستحسن التصرف معهم دومًا، نهائيا!
لذا فهي محاولة مستمرة لتحسين الذات، وتحسين التصرفات، ومعالجة أوجه الخلل في نفسك كمربي. يعني تربية لنا أصلًا. 

أحيانًا أتصل بأمي بنية سؤالها: كيف فعلتيها؟ كيف تجاوزتي المخاوف كل يوم؟ كيف لم يمنعك الخوف من تكرار التجربة ست مرات؟ 

لكن ما إن ترد على الهاتف، وتتهلل لسماع صوتي، تنزوي الأسئلة وتخفت، إلا السؤال عن الحال والصحة والجديد من الأخبار، ولا أريد وقتها من العالم شيئا إلا أن ترضى وتسعد. 

أما أسئلتي فيمكنها أن تنتظر.

الخميس، مارس 28، 2024

ما الذي تراه عندما ترى كوب ماء؟

 

Hegel's Holiday- 1958 (René Magritte) 

قرأتُ لصغيرتي قصة قبل النوم عن كوب ممتليٌ نصفه ماءً تختلف الشخصيات على تسميته، فمنهم من رأى النصفَ المملوءَ ماءً، ومنهم من رأى النصف الفارغ من الماء، ومنهم من رآه مملوءًا بالكامل نصفه ماءٌ ونصفهُ هواء.

 بينما تمعن فيه (ماجريت) يومًا ورسمه 100 مرة، وظهرت بقعة لون تحتها ظل يفكر ماذا يفعل فيها، وبعد كل هذه المسودات انقلبت البقعة مظلة، وهكذا جمعت اللوحة المسماة (أجازة هيجل) بين نقيضين في علاقتهما بالماء: الكوب والمظلة، الكوب يحتوي الماء، والمظلة تنبذه. وكعادة (ماجريت) في لوحاته المثيرة للتفكير يختار أسماءً توسع من التأمل وتُثري التفكير. فهو يسميها (أجازة هيجل) ربما لتستدعي ما يمثله (هيجل) في ذهنك، وما يستدعيه هيجل في ذهني الآن على الأقل هو فكرة "تأمل التاريخ" -والتاريخ هنا هو التاريخ الشخصي- ومقولته: «تاريخ العالم ليس إلا تقدم الوعي بالحرية.»

أحب أن يرزقني الله سعة الرؤية بجانب سعة الصدر وسعة الرزق، وأدعو بذلك. أن يمكنني رؤية الحدث أو التجربة أو الصورة متكاملة، أن أرى الصور داخل إطارها وخارج إطارها، أن أرى الامتلاء الظاهر والباطن حسب ما تسمح به قدراتي البشرية.

أعلم أني كبشر متغير متأثر بآلاف العوامل الداخلية والخارجية، لا يمكنه في لحظة معينة إلا التركيز على جزء فقط من الصورة. لكن أتمنى أن أظل قادرة على استيعاب ما هو خارج إطار الصورة الواضحة في أي موقف أو شخص، بما يحقق التوازن ويحفظ السلام النفسي.

 ***

أريد أن أتذكر أنني لستُ خالية من الجمال أو المهارات أو رجاحة العقل (لي نصيبٌ متفرد كغيري). ولا داعي لإثبات أيٍّ من ذلك لأي شخص مهما كان. لكن عليّ أن أنتبه لأفعالي، فالفعلُ هو المحك الحقيقي للمهارات والأفكار والأقوال. وهو ما يختبر المباديء، ويثبتها أكثر، أو ينفيها. والفعل هو واقع الفكرة، مهما كان قصوره. وغالبًا ما تخبرنا الأفعال عن أنفسنا أكثر مما تخبرنا به أفكارنا وتصوراتنا. 


 أريد أن أتذكر أن أثمن مافي هذه الحياة هو الوقت. ومن الحكمة احترام إيقاعه، وأوانه، وفواته. وأن مدة كل شيء مكتوبة لكل واحد منا، ولا يمكن تغيير ذلك.

ما يمكن تغييره هو الانتباه لما يُشتت عن الطريق الذي نود السير فيه. فلا يمكن لمسافر أن يصل لوجهته وهو يتوقف عند كل محطة، ويسمح لكل عابر أن يستبقيه قليلًا. وإن حدث فلا بأس، فليعد ضبط نفسه ويواصل سيره دون مزيد تضييع وقت في الندم على ما فات.

أريد أن أتذكر بكل الوسائل من أنا بالضبط، وألا أحبس نفسي في تجاربي العابرة، أو حوادث الزمان الماضية والحاضرة.  أحب أن أظل مستوعبةً لكوني عابرة سبيل، وطالبة علم، وباحثة عن الحق، وناشدةُ للجمال، وساعية للفهم، ومُحبة لله، والعالم والناس. وأن لي أدوارًا في هذه الحياة التي أعيشها، قدري فيها أن أملئها. فلأقبل المكتوب لي فيها، فهذا أدعى لسلامي وسويّتي النفسية.

 وأن هناك أدوارًا قدرية، وأدوارًا اختيارية. فالأدوار القدرية لا فِكاك منها، وإن كرهتها أو تهربت منها، فلن يغير ذلك شيئًا من ثبوتها مثل دوري كأم أو ابنة. أما الأدوار الاختيارية فليس لي فيها إلا الإحسان في اختياري بداية، والإخلاص في أداءها ما دمتُ فيها.

أن أركز على ما يمكنني تغييره في نفسي وعاداتي وظروفي، بدل قضاء وقت في تمني تغير ما لا يد لي في تغييره.

 ***

وأريد أن أتذكر أن أصل الدنيا العطب والنقصان لا الكمال. ولكل نصيبه من الصدمات والإساءات، ولا يوجد من أفلته هذا النصيب.

وأن الألم نصيبنا أثناء النمو، وأثناء الولادة، وبعدها، وقبل وأثناء لحظات المتعة أيضًا. وأن ما يصيبنا منه لم يكن ليفلتنا، وما أفلتنا منه لم يكن ليصيبنا. وأن لنا نصيب من الفرح والهناءة والسكينة والطمأنينة ولو للحظات تبدو أثيرية. فلنحتفل بها ونقدرها قدرها.

وأن أغلب الابتلاءات هي كمسماها ابتلاءاتٍ، واختباراتٍ، وخطًى كُتبت علينا (ومن كُتِبَت عليه خُطًى مشاها)، هي ليست عقابًا ولا (تخليص حق ما). بل مجرد (ابتلاءات) أو اختبارات مكتوبة علينا، وهي في أصل الحياة وليست خارجة عنها. 

وأن كل كمالٍ نلاحقه، فإنما نلاحق صورة أو ذكرى: صورته واضحة في أذهاننا أحيانًا، وبلا صورة ثابتة أحيانًا أخرى، وأما الذكرى فهي لوجودنا الأولي في الجنة وقت خلق آدم. ننسى أننا في دار النقصان، ولن نعود للجمال المطلق إلا في الحياة الآخرة. 

 ***

وكل محسوس ومُجرّب مرّ علينا، واستوعبناه يزيد من إدراكنا لما وراء هذا العالم الظاهر، ويوسع مداركنا لنعرف أكثر ما لا يُعرف بالقياس المادي، ونستوعب المجرد أكثر، ونتجاوز أنفسنا المحدودة، ونعرف الله أكثر.

تعلمتُ قريبًا أن الإنسان يرتقي من مرحلة إدراكه المحسوس فقط (منذ أول ولادته حتى 7 سنوات تقريبًا)، ثم يبدأ شيئًا فشيئًا في إدراك الأفكار المجردة. وأن معرفتنا بالله مثلًا تتأثر بعلاقتنا بأبوينا أيضًا، فنكوّن في لاوعينا صورة نفسية لله، لها علاقة مباشرة بخبراتنا مع والدينا. وإن لم نعِ جيدًا هذه النقطة، سنظل نميل "نفسيًا" لصورة الله (الرحيم) أو (المنتقم) أو (الجبار)، الحاضر أو الغائب حسب تفاعلنا الداخلي مع النموذج السائد الذي تلقيناه من أبوينا.

كذلك ترجمتنا العميقة للحب، وكيف نتلقاه، ومدى استحقاقنا له عمومًا -كل ذلك مرتبط بما عرفناه وتلقيناه وقيل لنا أنه الحب ونحن أطفال. لذا كما نستقل عن أبوينا بحياتنا، وأفكارنا - يمكننا أن نستقل بوعينا.

يحدث هذا عن طريق استكشاف لاوعينا عن طريق مراقبة سلوكياتنا، والانصات لما تشير إليه مشاعرنا، وما تثيره فينا الحوادث الكبيرة في حياتنا، وسماع الملاحظات البناءة من الأصدقاء الموثوقين مثلًا، ومساءلة أفكارنا، لنفك شيئًا من التشابك -قدر استطاعتنا- الذي يعوقنا أو لم يعد صالحًا لنا.

***

أكتبُ كل هذا لأُذكر نفسي، وأساعدها فالكتابة تساعد على التفكير، وتطلق سراح الخواطِر لتأخذ مجراها، إما أن تؤكدها الأحداث القادمة، أو تنفيها، أو ربما تضيف عليها وتطورها. 

والإنسان منا لا يمكنه أن يكون في حالة دائمة من الوعي المستنير، أو التأمل، أو الإثارة، أو الملل، أو الحزن، أو الفرح، أو أي حالة أصلًا..في كل يومٍ -وأحيانا في الساعة الواحدة- نأخذ من كل حالة شيئًا، وهذه طبيعة الحياة. 

وأنا هنا أكتب كمن يصور بالكاميرا: أحفظُ لحظة معينة وأؤطرها، ليمكنني أن أعود إليها وأتذكرها بعد ذلك وقت حاجةٍ أو غفلة. 

Stalker (1979)
Dir. Andrei Tarkovsky


الأربعاء، مارس 20، 2024

بعد الرضا

أيام غريبة تلك التي أعيشها. لحظات الفرح أو الراحة فيها تبدو كغيم عابر يتكون ولا يكتمل. تدفعني الأحداث العامة للزهد في أي طموح، وتَزيد نظري لهذي الدنيا قتامة. والأحداث الخاصة ساكنةً. أنا في مقام الرضا ساكنةٌ، لكني لم أرقَ بعدُ لحال الاطمئنان، حيث الرضا الممزوج بالسعادة. 

يقولون أن هناك فارق بين الشعور/ الحالة، والمقام/الحال، فأنت تتقلب في يومك من حالة لحالة، حزن وفرح ومفاجأة وملل ودهشة وغضب وتأمل وحيرة ..إلخ. بينما المقام أو الحال فهو الشعور الأكثر استقرارًا بحيث يوجد في خلفية كل شعور عابر. فإن كنت في مقام الرضا فأنت تحزن وتفرح وتغضب وتمل وتحتار وتتأمل وتضيق وتتسعُ وأنتَ راضٍ. 

فنحن الكائنات البسيطة المركبة نستطيع أن نشعر ونحس بطبقات من المشاعر، كما أن المشاعر أصلا ترتدي أقنعة. فيمكن للخوف أن يرتدي قناع القلق أو الشك أو الغضب، وأنت تعرف الأصل والقناع إن تأملت نفسك في هدوء، وتتبعت حالك.


أشعر بإنهاك المسافر في البحر. وقد جربتُ السفر فعليًا عبر البحر مرةً في حياتي. كانت غرفتنا في الدور السادس، وتحتوي زوجين من الأسرّة، كل زوج هو سرير ذو دورين، وهما على يمين ويسار الغرفة يفصل بينهما نافذة متوسطة الحجم نرى منها البحر الملتحم بالسماء. إن اشتدَ الموج قليلًا نتقلب من اليمين لليسار كقوارير نائمة في صينية يمسك بها طفل، ويميلها يمينا ويسارا ويمنعها عن السقوط حد الصينية فقط. أذكر الغثيان وقتها. 

كما أذكر الليل البهيم حيث سواد لا ترى معه شيء، وأذكر الصالة المشتركة أو المطعم، ودرجة (البولمان) التي هي عبارة عن كراسي فقط ككراسي حافلة الـ(سوبر جيت)، ولا أعرف كيف يبات عليها المسافرون 3 ليالٍ. ومغامراتي أنا وأخويّ لنرى البحر من سطح الباخرة.

أذكر أنها كان اسمها (السلام 98)، لا أذكر الرقم بالضبط -شيئًا ما في التسعينات-، وأذكر حادث الغرق الذي حدث لباخرة مماثلة بنفس الاسم. وأذكر تتبعي لأخبار الناجين، ولا مبالاة الحكومة بالناس، وقصص الباحثين عن أهلهم ولو جثثًا ليدفنوها. حكت لي صديقة سعودية عن امرأة ظلت تسافر كل ما أتاها خبرأو شبه خبر عن جثة فقيدها. وأذكر قصة عبدالله الطوخي في كتابه (نبع الينابيع) الذي قرأته وأنا في الثانوية عن ترحيل أهل النوبة وتغطيته لهذا الحدث عن طريق سفره في مراكب تنقل الأهالي المُرحَّلين -فيما أذكر-، حكى عن تلك المرأة المكلومة فقدت ابنين لها، وهي راكبة دائمة معهم على المراكب في الذهاب والإياب لعلها تجدهم.

لا أذكر السويس إلا كميناء، والميناء إلا كمكان نبدو فيه صغارًا جدًا ونحن ندخل سفينة نوح، والشاحنات الضخمة تدخل أمامنا لقاع السفينة، وخالي الذي صحبنا في هذه الرحلة وقد أخرهُ الأمن يسألونه ويتأكدون أنه ليس خطرًا على الأمن العام (آه من الأمن العام وخدش حياء الأمن العام)، وتأكدهم من سلامة أوراقه ونواياه بعد أن تحركت السفينة ليلحق الباخرة التي تحركت بقارب أمن سريع يقترب منها ويسقطه، ويقفز من القارب للباخرة. 

لا معنى لأي شي هنا. لا معنى مخبأ في بطني. أتذكر الآن كأنها أفلام، ربما أصورها يومًا ما. وربما أكتبها، وربما أموت بعد أقل من عامين كصديقتي -ماتت حبيبتي وعمرها أربعون-. ربما لا أموت ولا أفعل شيئًا وأموت كما يموت الشجر.

لا معنى لأي بحث أقوم به. هذا ما توصلت إليه بعد لهاث وركض. أو لا معنى محفوظ من قائمة المعاني التي لقنوها إيانا، والتي إن أختار منها الاختيار الصحيح سأنجح في الاختبار (وأدخل كلية قمة وأكسب فلوس وأقب على وش الدنيا).

 المعاني كلها مجردة، وأنا تائهة الآن. سأمتُ المجرد. أريد معنى أقضمه وأتذوقه وأشمه. أريد معنى ألمسه وأعرف حرارته، أريد معنى أتحدث إليه ويتحدث إلي. في الحقيقة ..لا أريد حديثًا. سأمتُ الكلام. صمتُ لعشر سنين من قبل ولم أكتب -رغم أني ما إن أضع يدي على الحروف حتى يخرج الحديث وحده أحيانًا وله معنى وأحيانًا أكثر بلا معنى يفيد أحدًا-، ربما من الأسلم والأجمل أن أصمت ثانيةً - لن يؤذيني على الأقل. لم أعد أريد أن أقابل أُناسًا، أخشى أن أشعر بالألفة وأسكب قلبي، وأنا لا أريد لقلبي أن ينسكب ثانيةً أبدًا. 

الآن أهرب من الشعور بأي أُلفة، فالراحة التي تأتي معها تحقنك بالأمل بلا هدف، الأمل المُجرد، الأمل بلا هدف، والذي قد يدفعني للجرأة حد النزق، ثم....نعم (سقوط على أم رأسي كما هو متوقع!)

أنا مستكينة هنا في هدوء، لا أكلم أحدًا، ولا يكلمني أحد، أكتفي بمعاركي اليومية التافهة، وأفعال البقاء المهمة المملة كلها. في السكون كشجرة أقلل أضرار وجودي على الأرض. لو استطعت تقليص وجودي أكثر سأفعل.

أنا أعلم أنني وسط الرحلة، ربما أشعر بالغثيان والدوار الآن. وعلي أن أهدأ وأتقلب كقارورة تتدحرج على سطح ما، تسقط من أعلى لأسفل، وقبل أن تسقط لتنكسر بالضبط، ينقلب السطح الأسفل لأعلى وتدور تدور تدور وهي تفكر(هذه المرة سأسقط! هذه المرة سأنكسر!). لكن السطح يتقلب من أعلى لأسفل بانتظام بندول فيما يبدو أنه بلا نهاية.

يبدو الشاطيء بعيدًا، يرتاح وراء الأفق. أعلم أنه هناك وإن لم أكن أراهُ الآن. أقول لنفسي أُذكّرُها: قدم أمام قدم، ونَفَسٌ وراء نَفَس*، وذِكْرٌ الله. هكذا نمضي في حياتنا إلى أن يحين الأجل.  

---
* في نهاية مسلسل Expats تقول البطلة كلامًا مشابهًا عن كيفية الحياة مع الألم: "We put foot in front of other, we take breath after another, we hum!".


الأحد، فبراير 18، 2024

انسحاب

 

تدريجيًا أنسحبُ داخل نفسي. لم تعد لي رغبة في شيء. شعوري المستقر بالرضا كأنه مطر سقى كل الزروع، وتشربته الأرض في نفسي. 

كنتُ أشعر بفرح أيضًا، واستعدتُ استمتاعي باللحظات الجميلة التي تأتي في طريقي. وكلما شعرت بلحظة حلوة غمرني شعور بالامتنان، وفعلتُ أي تصرف حلو لمن حولي.

يومين بهذه الحالة، ثم فجأة أنا في منتصف فيلم، وسط صحراء لا زرع فيها ولا ماء ولا بشر. وفجأة يُنْصَبُ سرادق عزاء ضخم، مليء بالكراسي على مد البصر. وأنا فيه وحدي. أقف من الفجر حتى الليل، ولا يأتي أحد. 

توقف كل شيء حتى البكاء. هادئة بطريقة غريبة. ويجافيني النوم، فأزيد من المجهود البدني، لينهار الجسد، ويغرق في نوم قصير متقطع لكنه عميق.

لا أريد سوى سبب يدفعني لفعل أي شيء. ربما علي الانتظار هكذا حتى يطلع لي صبح.