يمكن أن يغفر لك العالم التيه الذي تشعر به وأنت في العشرينيات من عمرك، لكن بعد أن تعبر الثلاثين وتدخل في الأربعين - يُظن فيك الاستقرار والثبات، ويُنظَر لتيهك بأنه نوع من الخيبة الثقيلة.
وربما ليس للعالم دخل في هذه التوقعات، وهذا مجرد ما يملأ رأسي، ويعطلني بالقلق والتوتر الذي أعيش فيه كلما واجهتُ اختيارًا.
قضيتُ شطرًا كبيرًا من حياتي ليس لرغباتي صوت معتبر. أؤخرها لأعمل ما يقتضيه الحال وحسب. لم تكن ظروفي وقدراتي تسمح بأكثر من هذا. والآن بعد أن صرت مسؤولة وراشدة أجد صعوبة في الاختيار دون ضغط. تنبهت أني أضع نفسي في هذا الضغط أحيانًا لأنجز ما أعمل أحيانًا، فأسوّف إلى أن أعمل في آخر لحظة، أو أضع لنفسي التزامًا متعلق بآخرين لكي أكون في حرج أن أُخلفه.
عدا ذلك فأنا شديدة التشتت، ولا أعرف إن كان هذا عرضًا صحيًا أم مجرد تكتيك شخصي للهرب من المسؤولية الشخصية تجاه نفسي. أن أعمل ما هو في مصلحتي دون ضغط زائد إلا أنه ما تستحقه نفسك منك كراعٍ أولي عنها.
أضع خطة كل فترة، ألتزم بخطوة أو خطوتين ثم أشعر بفزع بارد يتسلل لي كل يوم أني لم أنجز ما يكفي، لن أنجح، لن أصل لأني أضيع وقتي كلما فلتت مني ساعة في قراءة أو تصفح أو مشاهدة. فأسوف وأفعل ماهو بعيد عن هدفي.
أو أنه في الحقيقة ليس لدي هدف واحد في أي مرحلة، بل أهداف متعددة، كل هدف كبير منها ينقسم لخطوات يمكنها أن تكون أهدافًا صغيرة لحالها. فأجد نفسي في أول ثلاثة أيام مثلًا أنجز مهامًا كثيرة بحماس شديد، يقودني اعتقاد مخفي أني قادرة على إدارة عدة مهام في نفس الوقت، وهو ما كنت أجيده لكنه لم يعد ناجحًا بنفس الدرجة، ولم يعد يوصل لنفس النتائج المأمولة.
أجد نفسي فجأة كمن استيقظ فجأة وسط متاهة، لم يعرف كيف وصل هنا، وأين عليه يتوجه ليخرج.
***
(2)
خففتُ كثيرًا من استخدامي لخاصية تسريع الصوت الموجودة في المقاطع السمعية والمرئية في أغلب التطبيقات التي نستخدمها يوميًا الآن. كنتُ أستخدمها في كل شيء تقريبًا لأن (العمر قصير) ولا بد أن تفعل الكثير.
وجه حزين لصقه أحدهم على ردي عليه عندما سأل عمن يستخدم هذه الخاصية، وما أثرها في حياته. وانتبهت بعد ردي أنه لا يعجبني أني صرت أبعد بكثير عن الصبر، أبعد مما كنت عليه، ومما أتمنى أن أكونه.
عزوت قلة الصبر هذه إلى تداعي صحتي، ومحدودية طاقتي، لكني لم ألاحظ ما أفعل لأستطيع تغييره. هذه الوقفة كانت مهمة.
بدأت أعيد سماع ما لم أستوعب. أكف عن ارتداء السماعات طوال اليوم، لأسمع نفسي ومحيطي وأفعل شيئًا واحدًا كل مرة.
عدتُ بالتدريج لسماع الكتب أو البرامج وأنا أطبخ أو أفعل أي شيء روتيني. لكني وجدتُ مكانًا للقراءة، والاهتمام بالمواضيع والأفكار التي أقرأها.
***
(3)
مر عامان على حدث غيّر حياتي. واجهني بمشاعري التي لم يعد لها مكان، وبأساليبي النفسية التي لم تعد صالحة مع واقعي المتغير.
استعنتُ لمدة عام بمساعدة نفسية، ثم فجأة قررتُ أني اكتفيت. تراكمت عليّ المهام والخطوات التي ينبغي أن أسلكها لأصل لمكان أفضل.
قررتُ أني لن أتحدث مع أحد حتى أنجز شيئًا.
جزء من الأمر أن علاج الجروح بعد التطهير والضماد، هو الوقت. بعد فترة معينة لا شيء يمكن أن تفعله ليسرّع الشفاء حتى. الصبر والصبر الجميل فقط.
وجزء آخر: أني متعبة فعلا من الكلام. أحتاجه أحيانا شخصيا، أو لأهميته لحل الأمور..لكني أكثر إرهاقًا من أصدر صوتًا.
يوم وراء يوم، وأنا أجد أن عامًا مرّ ولم أحقق ذلك الإنجاز المُنتظر، وهو أن أكون في صحة ونشاط نحو الحياة.
خطواتي متعثرة، ويبدو كأن الأسى لم ينتهي، وكأن عامًا وعامين للحداد لم يكفيا. لم تتوقف رغبتي في مد اليد للصداقة، لكن توقفت عن أي فعل ينفذ هذه الرغبة.
لا أريد كتابة رسائل، ولا طاقة لي للكلام. البكاء البكاء ..يخرج كما يخرج العرق، وكما تخرج الحازوقة، وكما يفاجئك وجع البطن، والصداع.
دون كلام، ودون صوت أعاتب من أعاتب، وأضم من أريد ضمه، وأدعو لمن أريد أن أدعو، وأقول غدا أضع ربع ساعة للبكاء حتى لا يفاجئني (مثلما كانت تفعل شيفي بطلة مسلسل Succession)
أرحب بكل فرصة للضحك والمرح، أنطلق كلما استطعت، وإن لم أجد طاقة ..أبتسم كمُتعبَةٍ دُعيت للرقص (رغم أن ردها دومًا: في المرة القادمة إن شاء الله).
ينقذني الحمدُ كل مرة وقفت على حافة الهاوية من السقوط فيها، ينقذني تذكر ما لدي دون حول مني ولا قوة- أن أضيعه وأسعى خلف ما ينقصني.
ينقذني تذكر حقيقة الحب (العطاء، أن تتجاوز نفسك)، وحده الأدنى (أن تكفّ الأذى مثلا) من الدوران في الفراغ.
ينقذني تذكر زوال الدنيا، ودوام الآخرة، فأتمنى ألا يجرفني النسيان، وأسقط في الهاوية.
***
هذه الفترة كلما أقدمت على ورشة أو التزام جديد توقفت. وتوقفت عن تأنيب نفسي لأن مراكمة المعلومات والمهارات ليست هي الهدف.
أتمنى ألا يكون هذا انسحابًا مني - لا أعرف بعد-، أتمنى ألا يكون مؤشر غرق أسود آخر. سأمنح نفسي الراحة التي تنشدها، مقاومة إحساسي الغامر أني لا أفعل شيئا ذا قيمة.
***
تعلمت اليوم درسًا جميلًا قالته معلمة لتلميذاتها: "إن صَعُب عليك البدء في فعل شيء ما، فهذا لا يعني سوى أن أول خطوة ليست صغيرة بما يكفي".
رغم حديثي عن صعوبة الاختيار عندي، وعن استدعاء وضعية الطواريء في الحياة بعد مدة طويلة من التعامل بها، إلا أني أستشعر النعمة التي أعيش فيها: كل إحساس في جسدي، الألم والراحة، وقدرتي على التعافي، والوقت لأنام دون أن أكون تحت ضغط يمنع النوم، وكل شعور حلو أتذوقه، وكل شعور صعب أمر من خلاله، وكل حب أشعر به دون تبرير.
يذكرني هذا بالفيلم الجميل The Present بشكل أو آخر.
لنأمل في الخير، والسعة. والسلام.