الاثنين، أبريل 28، 2025

خطوة للأمام، اثنان للخلف، وتنهيدات طوال

(1)

 يمكن أن يغفر لك العالم التيه الذي تشعر به وأنت في العشرينيات من عمرك، لكن بعد أن تعبر الثلاثين وتدخل في الأربعين - يُظن فيك الاستقرار والثبات، ويُنظَر لتيهك بأنه نوع من الخيبة الثقيلة.

وربما ليس للعالم دخل في هذه التوقعات، وهذا مجرد ما يملأ رأسي، ويعطلني بالقلق والتوتر الذي أعيش فيه كلما واجهتُ اختيارًا. 

قضيتُ شطرًا كبيرًا من حياتي ليس لرغباتي صوت معتبر. أؤخرها لأعمل ما يقتضيه الحال وحسب. لم تكن ظروفي وقدراتي تسمح بأكثر من هذا. والآن بعد أن صرت مسؤولة وراشدة أجد صعوبة في الاختيار دون ضغط. تنبهت أني أضع نفسي في هذا الضغط أحيانًا لأنجز ما أعمل أحيانًا، فأسوّف إلى أن أعمل في آخر لحظة، أو أضع لنفسي التزامًا متعلق بآخرين لكي أكون في حرج أن أُخلفه. 

عدا ذلك فأنا شديدة التشتت، ولا أعرف إن كان هذا عرضًا صحيًا أم مجرد تكتيك شخصي للهرب من المسؤولية الشخصية تجاه نفسي. أن أعمل ما هو في مصلحتي دون ضغط زائد إلا أنه ما تستحقه نفسك منك كراعٍ أولي عنها. 

أضع خطة كل فترة، ألتزم بخطوة أو خطوتين ثم أشعر بفزع بارد يتسلل لي كل يوم أني لم أنجز ما يكفي، لن أنجح، لن أصل لأني أضيع وقتي كلما فلتت مني ساعة في قراءة أو تصفح أو مشاهدة. فأسوف وأفعل ماهو بعيد عن هدفي. 

أو أنه في الحقيقة ليس لدي هدف واحد في أي مرحلة، بل أهداف متعددة، كل هدف كبير منها ينقسم لخطوات يمكنها أن تكون أهدافًا صغيرة لحالها. فأجد نفسي في أول ثلاثة أيام مثلًا أنجز مهامًا كثيرة بحماس شديد، يقودني اعتقاد مخفي أني قادرة على إدارة عدة مهام في نفس الوقت، وهو ما كنت أجيده لكنه لم يعد ناجحًا بنفس الدرجة، ولم يعد يوصل لنفس النتائج المأمولة.  

أجد نفسي فجأة كمن استيقظ فجأة وسط متاهة، لم يعرف كيف وصل هنا، وأين عليه يتوجه ليخرج. 

***

(2)

خففتُ كثيرًا من استخدامي لخاصية تسريع الصوت الموجودة في المقاطع السمعية والمرئية في أغلب التطبيقات التي نستخدمها يوميًا الآن. كنتُ أستخدمها في كل شيء تقريبًا لأن (العمر قصير) ولا بد أن تفعل الكثير.

وجه حزين لصقه أحدهم على ردي عليه عندما سأل عمن يستخدم هذه الخاصية، وما أثرها في حياته. وانتبهت بعد ردي أنه لا يعجبني أني صرت أبعد بكثير عن الصبر، أبعد مما كنت عليه، ومما أتمنى أن أكونه.

عزوت قلة الصبر هذه إلى تداعي صحتي، ومحدودية طاقتي، لكني لم ألاحظ ما أفعل لأستطيع تغييره. هذه الوقفة كانت مهمة.

 بدأت أعيد سماع ما لم أستوعب. أكف عن ارتداء السماعات طوال اليوم، لأسمع نفسي ومحيطي وأفعل شيئًا واحدًا كل مرة. 

عدتُ بالتدريج لسماع الكتب أو البرامج وأنا أطبخ أو أفعل أي شيء روتيني. لكني وجدتُ مكانًا للقراءة، والاهتمام بالمواضيع والأفكار التي أقرأها. 

***

 (3)

مر عامان على حدث غيّر حياتي. واجهني بمشاعري التي لم يعد لها مكان، وبأساليبي النفسية التي لم تعد صالحة مع واقعي المتغير. 

استعنتُ لمدة عام بمساعدة نفسية، ثم فجأة قررتُ أني اكتفيت. تراكمت عليّ المهام والخطوات التي ينبغي أن أسلكها لأصل لمكان أفضل.

قررتُ أني لن أتحدث مع أحد حتى أنجز شيئًا. 

جزء من الأمر أن علاج الجروح بعد التطهير والضماد، هو الوقت. بعد فترة معينة لا شيء يمكن أن تفعله ليسرّع الشفاء حتى. الصبر والصبر الجميل فقط. 

وجزء آخر: أني متعبة فعلا من الكلام. أحتاجه أحيانا شخصيا، أو لأهميته لحل الأمور..لكني أكثر إرهاقًا من أصدر صوتًا. 

 

يوم وراء يوم، وأنا أجد أن عامًا مرّ ولم أحقق ذلك الإنجاز المُنتظر، وهو أن أكون في صحة ونشاط نحو الحياة.

خطواتي متعثرة، ويبدو كأن الأسى لم ينتهي، وكأن عامًا وعامين للحداد لم يكفيا. لم تتوقف رغبتي في مد اليد للصداقة، لكن توقفت عن أي فعل ينفذ هذه الرغبة. 

لا أريد كتابة رسائل، ولا طاقة لي للكلام. البكاء البكاء ..يخرج كما يخرج العرق، وكما تخرج الحازوقة، وكما يفاجئك وجع البطن، والصداع.

دون كلام، ودون صوت أعاتب من أعاتب، وأضم من أريد ضمه، وأدعو لمن أريد أن أدعو، وأقول غدا أضع ربع ساعة للبكاء حتى لا يفاجئني (مثلما كانت تفعل شيفي بطلة مسلسل Succession)

 أرحب بكل فرصة للضحك والمرح، أنطلق كلما استطعت، وإن لم أجد طاقة ..أبتسم كمُتعبَةٍ دُعيت للرقص (رغم أن ردها دومًا: في المرة القادمة إن شاء الله). 

 

ينقذني الحمدُ كل مرة وقفت على حافة الهاوية من السقوط فيها، ينقذني تذكر ما لدي دون حول مني ولا قوة- أن أضيعه وأسعى  خلف ما ينقصني. 

ينقذني تذكر حقيقة الحب (العطاء، أن تتجاوز نفسك)، وحده الأدنى (أن تكفّ الأذى مثلا) من الدوران في الفراغ.

ينقذني تذكر زوال الدنيا، ودوام الآخرة، فأتمنى ألا يجرفني النسيان، وأسقط في الهاوية. 

***

 هذه الفترة كلما أقدمت على ورشة أو التزام جديد توقفت. وتوقفت عن تأنيب نفسي لأن مراكمة المعلومات والمهارات ليست هي الهدف. 

أتمنى ألا يكون هذا انسحابًا مني - لا أعرف بعد-، أتمنى ألا يكون مؤشر غرق أسود آخر. سأمنح نفسي الراحة التي تنشدها، مقاومة إحساسي الغامر أني لا أفعل شيئا ذا قيمة.

***

تعلمت اليوم درسًا جميلًا قالته معلمة لتلميذاتها: "إن صَعُب عليك البدء في فعل شيء ما، فهذا لا يعني سوى أن أول خطوة ليست صغيرة بما يكفي". 

رغم حديثي عن صعوبة الاختيار عندي، وعن استدعاء وضعية الطواريء في الحياة بعد مدة طويلة من التعامل بها، إلا أني أستشعر النعمة التي أعيش فيها: كل إحساس في جسدي، الألم والراحة، وقدرتي على التعافي، والوقت لأنام دون أن أكون تحت ضغط يمنع النوم، وكل شعور حلو أتذوقه، وكل شعور صعب أمر من خلاله، وكل حب أشعر به دون تبرير. 

يذكرني هذا بالفيلم الجميل The Present بشكل أو آخر.


لنأمل في الخير، والسعة. والسلام.

الأربعاء، أبريل 09، 2025

الجدوى

ماذا يفعل المرء بعينيه 

       إن لم ير العالم الواسع؟

ماذا يفعل المرء برئتيه

       إن لم يملأها تماما بالهواء المجاني؟

ماذا يفعل المرء بأذنيه 

      إن لم يسمع غير ما في رأسه وحده؟

الجمعة، مارس 21، 2025

محطة القطار السرية*

غريبٌ أن نسخة مني تنمو وتزدهر في الظلمة، مدفونة عميقًا في عالم شاسع قوامه الأحلام المبتورة، والطرق المستحيلة، وكل المفقودين في الواقع.
نسخة تسعى أن توسع حدود الممكن في السطح قليلا، تحتفي بالبراح، وبالاستثناءات. 
 
 يتضخم العالم السري/الباطني أحيانًا، وينسى مبتدأ أنفاقه ومنتهاها، ترتفع أرضه، تحاول ابتلاعي أنا الواقفة على السطح/ في الظاهر مترددة بين إقدام على الحياة والتجارب وهرب منها.
 
ربما لا يبدأ النفق تحت المنزل/الوضع الذي أعيش فيه الآن، وإنما من مكان ما في ذلك الثقب الأسود.
قد لا تكون هذه بداية الأشياء، وإنما نهايتها..قد لا يكون السؤال: (هل من مكان أهرب إليه؟)، وإنما (ما الذي أهرب منه؟ ومالذي أهرب إليه؟)
 
(لماذا أنا هنا الآن؟)
(لماذا يلح عليّ هذا الاسم؟ وهذا الحَدَثُ؟وهذا الشوق؟ وهذه الأماني؟ إلامَ تشيرُ؟)
(لماذا لا أصل لأي مكان أو أي هدف؟ كأني أمشي في مكاني بكل همة! 
أم أني لا أنتبه لأي مكان وصلت له، لأني مشغولة بالهرب مما لا أريده أن يكون حياتي؟ 
 
عمري كله أقطع الطريق، وأطوي السكك..هل أنا هنا لأرى ما لم أرَ؟
هل تكتمل السكك أخيرًا، أم لا تكتمل أبدًا؟
 
هل أنا مجرد مسافرة على الطريق تقول: (سئمتُ الهرب)، ولا تتوقف عن الهرب؟
 
(2)
 
أقفُ على رصيف القطار. خوفك من فوت القطار عبودية للوقت، أم أمل فارغ أن في العمر متسع لنركب القطار الصحيح؟ 
الأحداثُ التي لم تحكيها لنفسك كما ينبغي بعد، والتي هي ظل لكل هذا الثقل الذي يعطلك كثيرًا من فترة لأخرى.
 (ربما نسيتي أين خبأتيها..اسألي جسدك)!

تقولين: ضيق الوقت لا يسمح بالإفصاح، أو بترتيب القصة. 
تراكمت السنوات، وضاقت عليها الكلمات البسيطة.
 
كلما مررتِ بفسحةٍ يمكن استغلالها للبوح، قلتِ ربما في وقت آخر.
 
يمر موظف القطا ذهابًا وإيابًا، يسأل: لماذا لا تتحدثين؟
(سيمضي القطار)
أصبحتِ عبئًا على رصيف القطار، وجدوله الزمني. (هكذا تشعرين).
 
تحدثي - ابحثي عن الكلمات وتحدثي-
فالقطار أوشك على الرحيل
 
وأنتِ ..لم تعثري على الكلمات حتى الآن.
 
هناك مقعد بانتظارك..
إيجاد الكلمات البسيطة الصادقة هو نصف المعركة فقط.
أن تعيش حياة بسيطة وصادقة، أو صادقة فقط، هذا هو الموضوع كله، والمعركة كلها.
 
القطار يغادر 
القطار دومًا يغادر
وأنتِ لم تعثري على كلماتك بعد.

ربما عليك بالفعل ركوب قطار متجه لعمران ما في نفسك، وفي الطريق، وبعد التجربة والحركة يمكنك تغيير الوجهة إن لم يناسبك الأمر.

ربما حان الوقت. ربما الآن هو الوقت.
———————-
* استلهامًا من The Underground Railroad 
كتبت شيئا، ومع المراجعة وإعادة القراءة، نتج شيء آخر. 

الثلاثاء، يناير 14، 2025

الخوف من الفقد

 أظن أن أكثر ما يعطلني شخصيًا عن الوصول لهدف ذو معنى في حياتي حاليًا هو الخوف من الفقد، واستعجال النتائج. بالإضافة لصعوبة إفلاتي من التوقعات المثالية أو تطلبها. 

أجد نفسي إما مُحبطة لأني لم أحقق النتيجة المرجوة حسب تصور منمق أرغب بشدة الوصول إليه، أو أتلكأ في أن أبدأ الفعل، أو أملّ بسرعة مقررة أن الأمر لا يستحق هذا التعب.

لاحظتُ أني أُنتج وسط مجموعة أو بالتزام أجبر نفسي عليه بشكل أو آخر، مثل التحاقي بورشة ما لمدة محددة، أو اشتراكي مع متخصص أو مجموعة لفترة محددة. ورغم أني أسعد بحصولي على نتيجة ما بهذه الطرق، إلا أني أدخل في دوامة غريبة بعدها. بعد انتهاء الضغط أستشعر الحرية، وأعطي نفسي مبررًا للغرق في المُلهيات بعيدًا عما أريد تحقيقه.


أريد أن أغير هذا الأمر لنمط أكثر استقرارًا ومتانة بحيث أصل لما أريده فعلًا بدل التمني. أو على الأقل أن أعيش تجربة متكاملة متصلة تمنحني نتيجة يعول عليها بعد ذلك في القرار أن أستمر أو أتوقف عن السعي في طريق ما.

 

ربما يساعد أن ألا أُحمّل الأفعال حمولة عاطفية تعطلني، أو أحبسها في توقعات مثالية. 

أحب أن أتذكر تجربتي في تعلم السباحة مثلا. من بدايته وأثناء تعلمي، كنت لا أصبر على جسمي في عدم إتقانه للحركات، أغضب وأضيق بنفسي ويدفعني ذلك للمحاولة أكثر، لكنه لا يمنحني أي راحة أو متعة تخفف الإحباط الشخصي من نفسي، إلى أن تعلمت من فترات الراحة في الماء بين الحركات أن الأمر ممتع، وأني بالفعل أتقدم وإن كان ببطء، فتجرأت على أن أعطي لنفسي أيامًا للعب دون ضغط الإنجاز الذي أضع نفسي فيه كلما دخلت المسبح. 

 

جربت بعدها تمارين المقاومة لما علمته من فوائدها لصحتي التي تتداعى، فوجدتها مؤلمة للغاية ومملة ورتيبة، ولم أجد فيها متعة السباحة. وربما لو لم يؤلمني أكثر المبلغ المدفوع للاشتراك ما أكملت. لكني تعلمت درسًا بعد المرة العاشرة مثلًا. أن الألم الذي أشعر به يبني بالفعل أو يزرع شيئًا جديدًا في النفس والجسد، وأنه يتأخر مع الاستمرارية والمداومة.

فالعمل مع الخوف من فقد الراحة الثمينة مُجزٍ آخر الأمر.

 لن يختفي الخوف بفعل ما سحري، بل يخفت صوته العالي أو يُدفَع تدريجيًا بالعمل، حتى يستقر الدرس الجديد، أو العادة أو الفعل الجديد.

وهذا سبب أني أكتب هنا -قد أفعل بانتظام حتى ينتهي دور هذه الكتابة- لأني أريد أن أستعيد الكتابة دون خوف من القراء وردود فعلهم، ومن حبهم وكراهيتهم، أو من أقول كلامًا مملًا ضحلًا لا فائدة منه، وليس جذابًا. 

بل إن شعار المرحلة القادمة هو: لنكتب كتابًا رديئًا! كما نصح ماركيز مثلا..ولأكتب كتابة رديئة. الأمر تقريبا لا مفر منه. لا ينبغي أن نأسر البدايات في توقع أو فرض أن تكون مبهرة أو ممتازة، او حتى جيدة طيلة الوقت. يمكن أن نحاول.

لنكتفي بالجيد، ونواصل العمل حتى الممتاز والمُتقن.


أمس شاهدتُ فيلما وثائقيا عن (كيرت فونيجيت)، تعلمت منه كثيرًا، وتفاعلت معه. من أهم ما انتبهتُ له هو الوقت الذي يستغرقه الكتاب ليخرج مهما كنت مهمومًا بالأمر، وأن ما يصل بك هو الاستمرارية والإصرار على الاستمرارية، والمحاولات التي لا تنتهي حتى تصل - أتذكر شعار "لا أبرحُ حتى أبلغ" الآن-.
درس مكرر من كل كاتب ذو شأن، أو فنان أو صاحب أي صنعة.

أحب أن أتحدث عن هذا الكاتب الذي يصاحبني هذه الأيام في وقت لاحق إن شاء الله.

السبت، يناير 11، 2025

وفيك انطوى العالم

دَواؤُكَ فيكَ وَما تُبصِرُ       وَدَاؤُكَ مِنكَ وَما تَشعُرُ

أَتَزعُمُ أَنَّكَ جُرمٌ صَغير       وَفيكَ اِنطَوى العالَمُ الأَكبَرُ

فَأَنتَ الكِتابُ المُبينُ الَّذي    بِأَحرُفِهِ يَظهَرُ المُضَمَرُ

وَما حاجَةٌ لَكَ مِن خارِجٍ     وَفِكرُكَ فيكَ وَما تُصدِرُ.

                                       (علي بن أبي طالب)

*** 

أشعر أحيانًا ألا فائدة تُرجى من كتابتي، فقد قيل بالفعل كل ما خطر على قلب بشر، كتبوه بكل اللغات، وحكوه بكل الطرق، فما الفائدة التي تُرجى من أي شيء أكتبه. 

 

لكني أعود وأكتب لأخاطب نفسي وأشباحي، أذكرها بما نسيت أو بما يمكن أن تنساه. وأفتح نافذة لأشباحي وهواجسي لعلها تتنفس وتطير فتتحرر وأتحرر.

 

- متى يهرب المُحب مما يحب؟

- عندما يكون ألم الاتصال أشد من ألم الانفصال.

***

الكتابة فعل تالٍ للقراءة، أو رد على فعل القراءة. لذا أعرف أني سأكتب طالما أقرأ بفضول وانتباه. والقراءة هي للكتب، وللناس، وللعالم من حولك -ولتجاربك إن كنتَ بصيرًا-


ما أقرأه في العامين الماضيين هو بحث عن إجابات لقاعٍ انفتح في نفسي من أسئلة لا ينتهي أحدها حتى يُولد الآخر من بطنه.

 

أقرأ لأقاوم إلحاح اندفاعاتي، وما يمكن أن يذهب بي بعيدًا عن المسار الصحي في حياتي.

 

لم أكن أتوقع أن أعيش لأقترب من الأربعين، ووفَزعتُ عندما ذُكِر في تساؤل عابر عما سأفعل عندما أصل للثمانين والتسعين!.

 

لسان حالي ما قاله الزهير بن أبي سلمى:

سَئِمتُ تَكاليفَ الحَياةِ وَمَن يَعِش        ثَمانينَ حَولاً لا أَبا لَكَ يَسأَمِ

رَأَيتُ المَنايا خَبطَ عَشواءَ مَن تُصِب   تُمِتهُ وَمَن تُخطِئ يُعَمَّر فَيَهرَمِ

وَأَعلَمُ عِلمَ اليَومِ وَالأَمسِ قَبلَهُ          وَلَكِنَّني عَن عِلمِ ما في غَدٍ عَمي

(وأنا أردد هذه الأبيات منذ عشرينياتي).  أعود لأبيات الزُهَير وأقرأ: 

وَمَن يَغتَرِب يَحسِب عَدُوّاً صَديقَهُ       وَمَن لا يُكَرِّم نَفسَهُ لا يُكَرَّمِ

وَمَهما تَكُن عِندَ اِمرِئٍ مِن خَليقَةٍ        وَإِن خالَها تَخفى عَلى الناسِ تُعلَمِ

وَمَن لا يَزَل يَستَحمِلُ الناسَ نَفسَهُ       وَلا يُغنِها يَوماً مِنَ الدَهرِ يُسأَمِ

 

يخرجني هذا الغرق اليائس  قول النبي الكريم: "لا يَتَمَنَّيَنَّ أحَدُكُمُ المَوْتَ مِن ضُرٍّ أصابَهُ، فإنْ كانَ لا بُدَّ فاعِلًا، فَلْيَقُلِ: اللَّهُمَّ أحْيِنِي ما كانَتِ الحَياةُ خَيْرًا لِي، وتَوَفَّنِي إذا كانَتِ الوَفاةُ خَيْرًا لِي"


 

وما الضرُّ الذي أحدث هذا الثقب الذي لا يُرتَق في نفسي؟ هل عرفته فعلًا بعد أكثر من عام على بحثي عن إجابات من داخل نفسي وتجربتي؟ لماذا كل ما ظننتُ أني عرفتُ لا أُشفى؟  أليست المعرفةُ شافية في أصلها؟

 

 

ربما الحل فعلا في الحركة والاستمرار فيها. في التقدم المستمر للأمام بالانتظام على أفعال يومية صغيرة تغذيها واجبات المرء ومسؤولياته تجاه نفسه ومن يعول. 

 

هل هذه الثقوب هي نقائص نفسي الأصيلة التي كلما اختفى منها واحد، ظهر غيره؟
ربما هذي الثقوب/النقائص هي دافعي للتحرك أصلًا. وأنا يوم أشعر باكتمال أقف أو أموت. لذا لحظات الاكتمال في حياتنا قصيرة. لكي نواصل الحركة (؟)

 


قاومت فكرة أن أعمل على أي شيء عدا ما أحب. إلا أن الحياة لا تعمل بهذه الطريقة. يمكن أن تعمل فيما لا تحب، لتتجنب الغرق في هاويتك، أو الانجذاب القهري لثقب نفسك الأسود. بعدها، بطريقة ما بالمهارات الجديدة التي تتعلمها في الطريق، تصبح قادرًا على فعل ما تحب، وتجد ما يتعبك فيه أيسر، بعد أن تعلمت الصبر والجلد من الانتظام في فعل ما لا تحب برغبتك لفترة.

 




وعطفًا على أبيات علي بن أبي طالب في أول حديثي هنا بأنه لا حاجة لي لاستعارة الحكمة من خارجي،  ففي نفسي كل حكمة، أراها إن تأملت فيها- رأيتُ رأي العين ما يفعله التكرار والمواظبة في زيادة التحمل.


 

وليس الجسد فقط ما يحتاج للرياضة، ولكن النفس والروح، وكل جزء فيك تريد أن تحمله على فعل شيء أو ترك شيء.


أُصبّرُ نفسي بالشعر وأحاديث الحكمة على ما لا أطيق من نفسي، ومن شرور العالم.

كل الفظائع معروضة كأنه سوق يزايد كل قادر على من يقدر عليه. وكلما مر عام، وخضت التجارب، عرفت مكاني في هذا العالم، أو ظننتُ أني عرفته. فيظهر أن ما يمكن أن أفعله أقل مقابل ما يجب أن أتقبله، أو أهادن فيه.



 

أو ربما هذا حديث الخوف.

نخاف من المجهول ونحن صغار: من أن تتركنا الحياة إن تركتنا أمهاتنا، ثم إن تركنا آباؤنا، ثم إن تركنا مجتمعنا القريب. 

 

ثم نخاف من المعلوم ونحن نكبر: فأمهاتنا أو آباؤنا أو مجتمعنا القريب قد تركونا في مواقف متعددة، أو تركونا تماما زمانًا أو مكانًا، فأنشأنا لأنفسنا نظام دفاع لتجنب مزيد من الألم والنبذ. 

 

الخوف حمولة، والحركة تَثْقُلُ كلما ثقلت الحمولة، حتى تتوقف تمامًا في مرحلة ما إن لم تتخفف.

وجهادنا المستمر أن نتوقف لنفتش ونجرد حمولتنا، ونتخفف لنواصل المسير.

الثلاثاء، أغسطس 20، 2024

البحث عن نهاية القصة

 الحياة غير منطقية، ولا أسباب معينة تقود لنتائج معينة إلا في الروايات.

الحياة أكبر من المنطق. ونحن من اخترع المنطق لنرتب أمورنا، ونشعر بشيء من الأمان وسط كل هذه الفوضى غير المُتنبأ بها.

المنطق موجود، والأسباب التي تؤدي إلى نتائج معينة موجودة. لكنها كالطرق التي نمهدها والمدن التي نبنيها وسط البرية، الطبيعة أكبر من مدننا مهما كبرت مدننا.

نحن نمهد طرقنا، ونبني مدننا بالحكايات التي نحكيها لأنفسنا ولغيرنا، نؤسس عليها فهمنا لأنفسنا، ونرى من خلالها العالم.

يُقال إن المخ يُخزن كل شيء يراه ويسمعه ويحس به داخل نطاق قدرته، ولكن استدعاءنا لكل هذه البيانات الداخلة لا بد له من أن ينتظم في حكاية أو قصة ليخرج للعالم. والحكاية تستخدم ما ينفعها من البيانات وتهمل الباقي، أو تجعله هامشًا، لا تستدعيه الذاكرة ثانية إلا إذا ظهر إطار أو سياق أو حافز ما يُخرج هذه التفاصيل للسطح ثانية.

***

ثم يأتي الموت (وأحيانًا الزواج كما تقول سوزان سونتاج في أحد اللقاءات) ليضع نهاية ما تجعل ما قبله حكاية. 

أي أن الموت نهاية الحياة، وبداية الحكاية بشكل ما.

هذه الفكرة جعلتني أتأمل فيها كسبب لرغبتي المتزايدة في الموت. ربما لأن أهم ما يجذبني في هذه الحياة هو الفهم. الرغبة في فهم العالم، وفهم نفسي، وفهم الآخرين، وفهم كل شيء.

وأشد لحظاتي ظُلمةً هي اللحظة التي أكف عن الفهم، أو يصبح فيه كل شيء غير مُستوعب وفوق الإدراك. 

شيئًا فشيئًا أتشرب فكرة الإيمان، وأنه ليس نابعًا من المكان الذي أفكر به وهو العقل، وإنما ينبع من القلب. وما يقر في القلب لا يخضع كليًا لقوانين الإدراك المنطقي. لأن كل ما هو خارج نطاق استدعاءنا وتحليلنا الواعي للبيانات التي نتلقاها طيلة اليوم يتعامل معه القلب ويكون له حكم. 

إذن فالقلب حساس لما ندركه بعقلنا الواعي، متقلب لأنه يحس بكل المشاعر، يربط جديدها بقديمها، ويرشدك بالمشاعر والإحساس. ربما بهذه الطريقة لأنه مكان استقبال وإرسال الطاقات فإنه إن يبصر تُبصر، وإن يعمى تعمى.

***

لذا فالإصرار على أن يكون العقل وتفكيره وحده حَكَمًا على الأشياء يضرني. لأنه يعطل الاسترشاد برسائل القلب ورؤيته. 

وربما هو الدافع للرغبة في الفناء أو الموت لأني -بشكل ما- أستعجل نهاية قصة حياتي، أو أن لدي فضولًا نحو ما ستنتهي إليه الأمور، أو أنني لم أتعلم بعد كيف أقف وأتأمل في الأحداث التي تغير حياتي،وأستقي منها ما أريد أن أفعله، أو أغير الوجهة ببساطة إن تبين أني أحتاج لذلك.

 

الأربعاء، مايو 15، 2024

يومًا ما

 بعد كل هذا، أتمنى إن عشت، أن أرى اليوم الذي عندما أسمع فيه أحدًا يصفني ب"جميلة" أو "لطيفة"، أو "طيبة"- ويمر الأمر دون أن أسمع في الخلفية صدى المعنى المستتر: "ويمكنني استغلالك"، أو "وأستطيع أخذ ما أريد منك دون اعتراض -وعليهم منك بوسة يا هبلة-".

أليس جميلا أن يكون للكلمات التي تقال معنى واضح مباشر بسيط؟