الأربعاء، مارس 14، 2007

أسماء لديها ما تُخفيه

بتنمّر وتحذيرٍ صريحينِ نظرتُ لأختي الصغرى ،فانكمشََت وضمَّت يديها إلى جنبها ،ومضَت خارجةً مسرعةً محمّرة الوجه لو كنتُ مكانها لصببتُ اللعنات

أعرفُ أنها لم تكن لتجرؤ على فتح ذلكَ الدرج ،ولكن الإغراء قاسٍ ولا يكفُّ عن الإغواء،ولطالما ساءلتني عمّا أخفي عنها.
قد أُضطّر بعد ذلك لإخفاءِ تلك الأشياء في مكانٍ آخرَ ،مع ابقاءِ التحذير والترهيب من عاقبة من يقتربُ من أشياءي ،ومن درجي خصوصًا
..نوع من التقنية المزدوجة التي قد تفيد أو لا تفيد
إنني أؤجل علمها فقط ،وربما لاحلَّ هناك إلا في حرق تلك القصاصاتِ والصور،وعلى أية حالة لم يَعُد يباغتني صوتُ الطلقةِ،فأنتفض كأن بي مسًّـا من شيطان.لم أعُد أفزع من صوتِ الطلقةِ التي ماتَ بها ،والتي مافتِئَت تطاردني،منذُ كنتُ في الخامسة .
مُذ كنت في الخامسةِ،وصوتُ القاضي ملتصقٌ بصوتِ دقاتِ الساعةِ المعلقةِ في وسط الصالةِ بمنزلنا،ملتصقٌ بصوتِ السياراتِ في الشارع،ملتصقٌ بالأصوات غير المميزة في المدرسةِ..
صوتُ القاضي الرخيم،بقيَّ حتى بعد أن تفرّغ من الكلماتِ فصارَ مجردَ صوتٍ نقيٍ أو شوشرةً مُنغّمَـة
كنتُ طيلةَ الخمسةَ أعوامٍ الأولى أحفظُ ماقال بالنص،ثم بدأتِ الكلماتُ تتساقطُ شيئًا فشيئًا حتى بقيَّ الصوتُ الصارم المحايدُ المعبأُ برائحةالملل.
رائحةُ عرق أمي وهي تحتضنني ،تخفي رأسي في ردائها الأسود ،أقاومها وأخرج رأسي كل فترةٍ،وهي مرهقةٌ وأنا عنيدة،وهي مرهقةٌ وأنا أقاومُ،وهي مرهقةٌ وأنا أخرجُ رأسي أنظرُ إليهِ.
ارتجافها المنتقل إليّ ،أبي الموضوع في القفص،جلبابه الأبيض،لا أعرفُ أين أضاعَ سواكه،مقطّبٌ ،عيناه معلقتان بالقاضي ذو الشعر الأبيض ذو الوجه الجامد ذو التجاعيدِ التي تغير مكانها إذا ما تكلم.
لحيته السوداء،ملمسها في وجهي حين يلاعبني،أشعرُ بها كنملٍ كثير يروح بسرعةٍ ذهابًا وجيئة،فأضحك أضحكُ فيضحكُ هو ويقبلني،فأشعر أن رائحته سحابة بيضاء،وأنا فوق السحابة البيضاء.
يُظلمُ المشهدُ بعدها ،يسقطُ كل ما حدث في بقعة سوداء معتمةٍ في ذاكرتي،تبتلعُ كل شئ لمكانٍ لم أصلْه حتى الآن بعد خمسة عشر عامًا تقريبًا مما حدث،فقط ينتابني وخزٌ يبقى لثوانٍ ينتهي بصوتِ الطلقةِ وبياضٌ يغشي كل شئ.
قبل خمسة أعوام كان المشهد يداهمني يوميًا ،وقد يكرر الهجوم ،فلا أملكُ أن أفعل سوى ضمّ يديّ إليّ بقوة ،أنكس رأسي،أغمضُ عيني..ثم أواصل ماكنتُ أقول أو أفعل.
لم تكن أختي تبلغ سوى أشهر معدودات ساعةَ داهموا بيتنا أيام قُتِلَ ذلك المسئولُ الكبير،غابَ أبي من يومها،ثم كان اليوم الذي ذهبت بنا أمي للجدة ،لم أتركها تمضي،كنتُ أعرف أنها ستذهب لأبي.
وكان الناسُ كثيرون..وكلما حاولتُ أن أستحضرَ المشهد ،اتضح جليًا في ذهني ثم ما يلبث أن ينمحي ،وممحاةُ رأسي في يدٍ بطيئة.
أمي العليلةُ دومًا من يومها ،تزوجت مرةً ،ثم انفصلت ؛لأنه لم يكن كما أوصى أبي معنا.أمي الشاحبةُ من يومها تزوجت ثانيةً،ولنا أخٌ صغير من الرجلِ الذي كما أوصى أبي معنا.
أسربلُ جثماني بالأسودِ فلا يظهر شئ مني،فلا تظهر عينايَ،فيظهر العالم من وراءِ مصفاةٍ دومًا ،متلونٌ بسوادٍ شفيف دومًا.
أمضي بجسدي النحيل في الشارع ..لاأحب السير في الشارع ؛ففي الشارع وجوه لا تعرفك،تنظر إليك كأنها تعرفك،تتساءل كأنها تحاكمك،تجلدك كأنها تعاقبك.
لا أحب الناس الذين كديدانٍ ينخرون في تفاحة.أنا تفاحة ،والناس الكبارُ الشديدو الطولِ ديدانٌ تروحُ وتجيئُ فيني،وأنا تفاحةٌ والأصواتُ ديدانٌ تروحُ وتجيئُ فيني.
أختي الصغرى الأكثرُ مرحًا مني الأكثر إشراقًا مني،كتفاحةٍ حمراء،لم تَُرح فيها الديدان وتجيئُ،لا تمَلّ من الإشارةِ للأسودِ الأكبر مني ،أبتسمُ لها بحنان مرةً ،وبسخرية مرةً ،وأهز رأسي بلا ابتساماتٍ مراتٍ أخرى.
أخي من أمي ،أسمرٌ،ذو شعرٍ مجعدٍ،يملك من العمرِ خمسًا من الأعوام،يداعبهُ زوجُ أمي بلحيته السوداء،فيشعرُ بملمسها في وجهه كنملٍ كثير يروح جيئةً وذهابًا ،فيضحك يضحكُ ،فيضحكُ زوج أمي ويقبّله،فيشعر أن رائحته كسحابة طرية،كوسادة من ريش النعامِ،وهو فوق السحابة الطرية كوسادة من ريش النعامِ.

ووجهُ القاضي يبهتُ وصوتُ القاضي يخفتُ وصوتُ الطلقةِ يخبئ رأسه في اللحنِ ،وبياضٌ يغلب على الأشياءِ لا يخفيها.