الاثنين، نوفمبر 30، 2009

حكايات حارة عبدالرحيم

(1)
ماتت الست أم سلامة منذُ أسبوع تقريبًا،وقبلها بأكثر من أسبوع كانت الست أم حسني قد ودعت هذه الدنيا.وقد تأثرتُ بموتهما،رغم معرفتي أن الموت حق،وأنهما سيدتان كبيرتان ،وموت الكبار لا يُستغرَب مهما بلغ مقدار ألمه.
لا أحد يعرف الست أم سلامة،ولا أنا -من أحكي- أعرفها جيدًا.
هي زوجة عبدالرحيم،الذي تُسمى الحارة باسمه رسميًا وفي عناوين البريد،الست الكبيرة التي تجلس على المصطبة أمام باب عمارتنا بالضبط.
يُقال -والله أعلم- أنها من العرب،الذين تملكوا قطعة الأرض التي عليها كل عمائر حارتنا الواسعة بوضع اليد،وكان زوجها شيخ الحارة.
لم يتبق من جيرتها القِدام إلا عم أبو مجدي وزوجته،والست أم حسني التي تسكن في الدور الأرضي لعمارتنا،وأم سمسم بأسرتها التي كبرت بزواج الأبناء وإنجابهم للذرية،وأم سيد،والبيت القديم المتداعي لأهل أم مصطفى بلغاريا كما كنا نسميه (ربما لأنه أشقر الشعر،أسمر الوجه-وربما لمباراة أو أي سبب لا أتذكره أو أعرفه الآن).هذا البيت هو الوحيد الباقي من ذاك الزمن على هيئته،بعد أن تبدل كل شئ،عمره فوق الثمانين عامًا،وسقف الدار مهدم ،تنشر الكراكيب فوق بقية السقف الذي يتوسطه (مَنْشَر الغسيل)،ذاك السقف الذي لابد أن كان سطحًا ،إلا أن السور لم يتبقى منه إلا مايدل على وجوده يومًا..كم تخيلتُ أنني أنظف ذاك السقف بينما أتأمله من شباك عمارتنا المقابلة.


الست أم سلامة لها ابنين أعرف زوجة أحدهما (أم عمرو)،وابنته ،معرفة عابرة كادت أن تتوثق أحد الأيام،إلا أنها لم تتوثق حتى أنني ألوم نفسي أنني لم أبارك لابنته بمولودها الذي أصبح يمشي الآن،على الأقل كحق وواجب للجيرة.


ابنتها ،طُلقت ،ولديها ثلاثة أبناء كبار،يُعتبر الاثنين كبار الحارة لو صح الوصف بهذا-ربما أحكي عنهم يومًا-.
كانت الست أم سلامة تجلس في العصاري مع ابنتها،وبعض أيام الشتاء كانت تشعل النار أمامها في خشب،فتذكرني بالبادية والنار المشتعلة للأضياف.
كنا نتضايق بصراحة من جلوسها،ومراقبتها لنا داخلين خارجين،إضافة إلى كلمات أمي عندما يرتفع صوتنا (دلوقت أم سلامة تقول علينا ايه؟) مؤنبةً لنا ،مذكرةً بوجوب التهذيب،التي من ضمنها عدم ارتفاع الصوت بهذه الطريقة الهمجية أثناء الخلافات،أو القهقهات الصاخبة أثناء موجات المرح المنطلقة.


كانت تراقب بصمت بعينيها،وهيئتها المميزة..وكانت سيدة نظيفة تهتم بأناقتها،وتشتري أنواعًا كثيرة من الشامبو وسائل الاستحمام،تدليلاً واهتمامًا بنفسها -لم أفاجئ لما قالت أمي ذلك-،وهي لم تكن ترضى بالجلوس على المصطبة والحارة غير نظيفة،تكنسها من أولها لآخرها وهي طويلة لو فتحت طرفها المسدود لأصبحت ببساطة شارعًا صغيرًا،وهي أوسع من حارة بالمفهوم الذي قد يتبادر لتصورك.
ثم ترشها بالماء.ثم تجلس.تردُّ السلام،وتقري الضيف بأكواب الشاي الواحد تلو الآخر.


لها صديقة سودانية كبيرة في السن،أخبرتني إيمان أخت مصطفى بلغاريا،أنها كانت تسكن في بيت كان مقابل بيتهم (تم بناء برج الإسراء ذو العشرة أدوار مكانه) كانوا يسمونه البيت الأصفر،لأنه كان مدهونًا بالأصفر.وكان عبارة عن غرف كثيرة بحمامات مشتركة.وكان السودانيون الساكنون يملكون أكثر من غرفة بحمام اختصوه بعدد الغرف لهم،وكانت تستطيع وهي صغيرة أن ترى بيتهم النظيف وزرعات الفل والأشجار الصغيرة التي يزينون بها باحة البيت ،كما تستطيع أن ترى بناتهن الجميلات وهن مهتمات بأنفسهن وملابسهن حتى أثناء جلوسهن في المنزل.
كانت صديقة الست أم سلامة هذه عندما تجيئها ينير وجهها،ويحلو الحديث،حتى أن المرء بسهولة يمكن أن ينسى ضيقه من الرقابة لغلبة إحساس الود والأمان على الجو.


يُقال أن عم حسن ،الصعيدي الشاطر،المالك لعمارتنا (7أدوار)،وللعمارة المقابلة والمجاورة (10 أدوار)،استراضاهم في أن يأخذ الأرض مقابل شقق لكل منهم،وأنه أخذ وقتًا طويلاً في هذا لكنه أفلح في النهاية .
بيت الست أم سلامة الذي يجاور بيت الست أم مجدي،ويفتح كل منهما بباب مستقل عبارة عن شقتين متوسطتتين تقعان في الدور الأرضي وتفتحان في الجهة المقابلة لجهة باب العمارة ،وهما منفصلتان بالكامل عن العمارة بجدار داخلي.
يضم البيت،هي وابنتها بأولادها الثلاثة،وابنها بزوجته وابنه (تزوجت بنته وانتقلت).
كلمتها مسموعة على الكبير والصغير،رغم عدم وجود أي إدعاء ظاهر في شكلها للسلطة أو لمكانتها هذه.هي أم للجميع كما يمكنك أن تسمع نداءات الشباب لها،وكما يمكن أن تسمع من يشتكي لها لتخفف عنه بـ (معلش معلش..هي الدنيا كده..ربنا يكرمك يابني ).


أم حسني التي كانت قد بلغت من العمر عتيًا..سأحكي عنها يومًا قريبًا إن شاء الله.

هناك تعليق واحد:

غير معرف يقول...

أسلوبك لطيف

لك مني التحية وكل عام وأنت بخير وكامل أسرتك الكريمة