السبت، يونيو 12، 2010

بيت في الدنيا وبيت في الحنين


"التخلّي بطولة أقوى من بطولة الإرادة ،لأن التخلّي ليس سوى الاسم الآخر للاستكفاء.لأن من وجد في نفسه التخلي يستطيع دائمًا أن ينقذ نفسه حتى لو ظنّ أوان الخلاص قد فات."

في الأغلب يكون مزاجي رحب لعدد متنوع وشاسع من خيارات القراءة،وأحيانًا  تستبعد الحالة المزاجية كتابات ذات مذاق خاص متميز ككتابات ابراهيم الكوني.

رواية (بيت في الدنيا وبيت في الحنين)،المكتوبة في شهرين كما يبدو في سرد تواريخ روايات الكوني في نهاية الكتاب،هي لجو الملاحم أقرب.
ربما لم تكن ملحمة بمعنى هذا الكمّ المتشابك من الأحداث الذي يملأ الملاحم الأم ،كالإلياذة مثلاً،أو حتى ملحمة مملكة الخواتم لتولكين
لكنها تحوي العناصر الأساسية،هناك رحلة بحث عن الـ (ماوراء)،والأسئلة الرئيسية التي تجعل من الرواية مسرحًا للتفكر والفلسفة.


تلتقي ايحاءات صاحب البستان و"بندام" المطرود الذي تم ذكره في الرواية عَرَضًا في صُلب الرواية ،أو استشهادًا أو تفسيرًا لأصل الأمور الخلق وكيف نشأ،بقصة "آدم" -عليه السلام-،وخروجه من الجنة ،وإن كانت النظرة هنا أقرب ماتكون لما ورد بـ سفر التكوين (العهد القديم)،لا ماورَدَ في القرآن الكريم .


نقاط الالتقاء في النظرة لـ(حواء) أو المرأة التي وصفها الكوني في روايته بأنها "ليست إنسًا ،ولا حيوانًا" ،ووصفها كثيرًا بـ "الجنية" ،
لكنه لا يخلط بين كونها نوعًا مختلفًا أقرب للجن وبين جنس (الجن) الذين يعرفهم أهل الصحراءِ كما يصفهم.
***
الناموس -الحية- الترياق- التعاويذ -الظمـأ- الخفاء وأهل الخفاء- الجن- الساحرات- العرّاف- العطّار - الحكيم..
إنها تيماتٌ للكوني،لايستنفذها التكرار ،ويبليها، لأن لها كل مرة منظور مختلف، أو توضع في (كُـلّ) مختلف -في إطار جديد-.


هنا يحضرني مايمكن أن يكون حكمة أو ميزة التكرار..حيث تتجاوز جدّته (أو حداثته) على أذنك ووجدانك،لِتُعمّق معرفتك به طولاً لا عرضًا..رأسيًا لا أفقيًا ..
تغدو الرموز المكررة هذه ذات فائدة تجنيها من التكرار الذي يجعلها مفاتيح لعالم مختلف بالكامل ،عالم متفرد يمنحك نوعًا من السماحية أو العضوية بدخوله بمجرد هضمك لهذه المفردات . وهكذا يمكن أن يتكون ما يمكن أن تسميه (عالم إبراهيم الكوني)،أو حتى تصبح الصحراء -بنظرة مختلفة- واضحة المعالم ،لا كخلفية تملأها بالأحداث مثلاً ،بل كبنيان،كـ كيان ..كـ حلم أنت فيه تحس وتتقاعل،حتى لو ظللت مجرد مشاهد ،طيلة الرواية..
-
"لم يجد في أسفاره إلا لذّة التحرر من مكان يتهدده باستنبات الجذور،ولذة الانطلاق استجابةً لوعود الافاق،أو لذة التحرر بالحضور في المكان الواقع بين مكان يفرّ منه ،ومكان يذهب إليه. لكن الترحال لايصير مُمـلاً ولا مُميتًا مهما تهددت المسافر الأخطار ،لأن السفر في هذه الحالة لايُعَـدُ سفرًا ،ولا رحيـلاً،بل عُبـورًا."
-

المرأة التي رسم لها الناموس مهمة حماية النسل،المتطلعة للروح،المُقـدِّمة للمجد لا الباحثة عنه،الناظرة لأعلى أبدًا..
والرجل المتطلع للمجد،المشغول بالحلم اللاملموس ،العابر لأن "الدنيا عبور في عبور في عبور"..بينما المرأة هي الأرض،أو الملتصقة بالأرض..
وفي هذا ايحاءٌ لمفارقتها الحتمي ،حيث القوانين -قوانين الناموس- وحكم السابقين تؤكد بأن الاستقرار في أرض ما ،عبودية واستعباد ،بينما التحرر من كل قيد هو شان الأحرار ..لذا دومًا يرى أهل الصحراء أنفسهم أعلى مقامًا من الفلاحين العبيد للأرض..
بينما يرى الفلاح أنه يدفع جهده وعرقه ودمه،فلا تخونه الأرض مُعطيةً إياه ثمن ما أنفـق ،وإذا تهاون عاقبته على إهماله ،وقتّـرت في العطاء -وفي هذا قسمةُ العدل.
-
"في السفر لانجدُ حنينًا ،في السفر لانجد أي شئ على الإطلاق،لأن السفر تحرر من الحنين ،وتحرر من النفس التي توسوس بالحنين"
***
"السوءُ في أن نعرف،لا في أن نجهل. لو لم نعرف يومًا لما ذقنا طعم الشقوة يومًا."
إبراهيم الكوني في زي الطوارق
يصارع الكوني طيلة الرواية مفهوم الحرية ،والتحرر..يُدخل معنى الحرية ويخرجه من مفاهيم ومشاعر أخرى..بما فيها مفهوم الموت والحياة،الولادة والموت..
يقارن الكوني تحت إطار ناموس الميلاد والموت بين الطفل والشيخ ،حيث يولد الجنين مُغضونًا -أو مُغضّنًا- والتي هي سيماءُ الشيخوخة،ويستردها إذا شاخ ،فيكون طفلاً موسومًا بسمة الشيوخ،وشيخًا موسومًا بسمة الأطفال.


ثم بين الميلاد والممات هناك الرحلة ،وهي الهدف..أو هي الحياة ومعناها،لأن البحث عن الكنز هو لأجل البطولة التي تحقق معنى الإنسان ،لأن هذا مايفرقه عن الحيوان ،لأن من لا يقدم نفسه قربانًا لايتركُ أثرًا.ومن لايترك أثرًا لاينال مجدًا ،ولكنه يُضاب بلعنة خفية اسمها الزوال. -كما يقول الكوني-.


ثم في رحلتك أنتَ تعرف أن الطريق للذهب أعسر من نيل الذهب ذاته،فلا يغرّك الذهب لأن سيتعبدك كالأرض..وحياة صاحب الباطل،دنياه،بينما حياة صاحب المسّ ..الحنين.


وهنا مكمن مدح وتمجيد الصحراوي لدى الكوني،لكأنه الصورة النقية للإنسان الحر..فهو يقول عنه :
"الصحراوي من أكثر المخلوقات لهفةً إلى الحرية ،ولكن سليل الصحراء أيضًا من أكثر المخلوقات لهفة إلى الوطن عندما ينال الحرية.
الصحراوي،سليل لايتوقف عن شئ ،لأن ناموس الترحال يحرمه من النَـيل،ومن المكانة ،ومن الأحلام ..فلا يجد السعادة غلا في التحول من حال إلى حال ،في المسافة الكامنة بين الضد والضد ،بين الوطن وبين التحرر من المكان ،من الأرض، من الوطن.
الصحراوي لايجد نفسه -لهذه العلّة- إلا في برزخ اسمه (التخلّي)،التخلي عن الحرية إذا نال الحرية ،والتخلي عن الوطن إذا نال الوطن."


وأفكر..لربما يبرر الكوني للصحراوي نفسيًا ما يجب أن يفعله بحكم الاستجابة لظروف البيئة..لأنه لربما مع تكرار استجابتنا لتداعيات مفروضة نحافظ على فعلها لنحافظ على حياتنا ..يغدو هذا في جزء منه إهانةً لحريتنا وقدرتنا على الاختيار كما (نحب) ونهوى،فلا بأس من فلسفة الأمر ،أو اعطاءه معانٍ بمقاس شعورنا..
ومن قال إن مشاعرنا ليست متشابكة ،ومعقدة..وأننا قادرين مع اضطرارنا لسلوك طريقة معينة في الحياة -كالترحال- أن نفعلها مع الإحساس بالمجد ..
هذا لا يمنع،أن تحليله لفكرة الترحال ،تحليل ساحر..لم أجرؤ معه منذ قرأت الرواية من 3 أعوام تقريبًا أن أفكر بأن هذا قد يكون تبريرًا..أو أي شئ من هذا القبيل..لكن السنوات تعقلن العواطف كما تعلم.


والكوني لا يرفعك إلى السماء ويتركك تسقط بعد إغلاق الرواية..
هو يخبرك أن "أهل الأحزان يعرفون أن الحزنَ يَجُـبُّ الحزن ..أن يميت الحزن إذا زاد عن الحد."
ويخبرك : " أن الظمـأ إلى الحبيب يامولاي، ظمأ النفس للفوز بالنفس..أجدر بنا أن نضعه في كفة الميزان مع ظمأ آخر اسمه الظمأ إلى الحلم ،لأن نضعه في كفّة الميزان مع علل البدن ."


إنه ينتصر للحياة، لا للموت..حتى لو رأى أن حياة الحر إنما هي عبور..إنه نهم ذواقة للحياة،لذا هو يزهد في القليل الزائل،لينال الكثير الأبدي..
"الحياة في الصراع ،دائمًا هي الطرف الأقوى  من طرفها الموت.الحياة أقوى من الموت حتى لو ساد الموت ..الحياة أعجوبة أقوى من الموت حتى لو غلب الموت."
***
"من لم يختر الموت مصيرًا لايذوق طعم الحياة،ونحن لا نولد لنحيا،وإنما نحيا لنموت."

(دنيا الظلمات) فصل يتحدث عن غياب البطل في غيبوبة ،وهي تحرر من غولٍ اسمه (الدنيا) على حد قوله.
يتكرر مثل هذا الأمر ،وهذه الإشارة لغياب المرء ليطّلع على جزء مما "هناك"،أو مايقصد به العالم الآخر/الدنيا الآخرة التي مابعد الموت،ويتكرر وصفها أنها لا تعدو ظلمة وأنَّ حياةً أخرى بنفس مفردات حياتنا "هنا" في الدنيا أمر يثير السخرية.

وإن كان الأمر يستدعي الملاحظة مابين وروده في الرواية هنا الصادرة عام 2000 ورباعية الخسوف.ففي الأخيرة يسرد قصة رجل ذهب إلى "هناك"(هذا يعني أنه اقترب من الموت جدًا..أو مات ثم عاد)، وكان زاهدًا ،ولما عاد انغمس في ملذات الدنيا ،وصمتَ تمامًا عن أسئلة الناس المتعطشة عما رآه ولمسه في عالم الخفاء.

أيضًا صمتُ الشيخ غوما المرّ أمام حكي ذاك الرجل المظلوم الذي عذبته قوات الاحتلال ،وسؤاله عن وجود جنة ونار وعقاب للظالمين،ولاضطرار الشيخ غوما لتأليف قصص عن كيفية تعذيب الظالمين ،ليشفي غليل الرجل المكلوم،وليخفف من وطأة غضبه.
بينما في رواية (بيت في الدنيا وبيت في الحنين)،يتناول غياب البطل ،ورحلته "هناك" من منظور الحرية،والتحرر من القيود،حتى لو كان الـ"هناك" هذا في رؤية الكوني جُبـًّا من الظلمات،فيكفيه بلسم الإجابة على سؤاله المُلح :(لماذا يذهب الأخيار،ويبقى الأشرار؟) ..لتكون الإجابة،أنها رحمة بهم لأنهم لايستطيعون مواجهة كل هذا الظلم ..

***
 الرواية أعمق من الحديث السريع عنها،ومولّدة لمزيد من الأسئلة والأفكار ،ودوامات الانطباعات،واستدعاءات الأفكار المجردة وغير المجردة بشكل يجعلها جديرة بالاقتناء،للتقليب فيها من فترة لأخرى.

وهي مُقسّمة لأقسام ليست بالغة الطول،تحمل أفكارًا بلا كثير حشو حتى لو تكررت الكلمات والتعابير،ففي كل مر هناك بسطٌ لفتح طرق وأبواب جديدة للمفاهيم،أو ضمٌّ لتركيز الكلماتِ حباتِ لؤلؤ.
________________
إشارة وإهداء:
هذه التدوينة هي تهذيب لما كتبته على الورق منذ عام 2007 ،وما أعدته هنا بعد كل هذا الوقت إلا امتنانًا لأخي أوداد الذي لطالما أراد معرفة رأيي حول الرواية.
إذن فهذا إهداء مُحرَج لاثنين فتحا عينيّ على الكوني..محمد أبو غرارة،وعبدالهادي (الشيخ غوما)..سلمتما.

هناك 3 تعليقات:

Prometheus يقول...

Mist
شكرا جزيلا لك على هذا الوصف الممتع لرواية الكوني. سمعت عن الروائي الكثير واستمتعت بحواره التلفزيوني مؤخّرا كما سمعت نقدا ايجابيا عن روايته الأخرى "المجوس". لكن للأسف لم يتسن لي قراءة أي من رواياته حتى الآن وأتمنى أن افعل قريبا.
مرة أخرى تسلمين على العرض الرائع مع خالص مودّتي.
بروميثيوس

Mist يقول...

Prometheus
حللتَ أهلاً بصفحتنا:)
الكوني بالفعل يستحق القراءة،له عالم خاص كما وجدته.
ورواية المجوس رائعة بالفعل،بالإضافة إلى رباعية الخسوف..

أتمنى أن أسمع رأيك بعد قراءته،فلا شك أن قراءتك له ستكون متميزة.

وشكرُ عطر على حضورك :)

صالح العليوي يقول...

الشكر كل الشكر لك أيتها الرائعة
فقد كان تقديمك رائعا حول الكوني وتوابعه
شكرا لك
وتقبلي تحياتي