الجمعة، يناير 13، 2012

بل صعد*

"الموت هو ، أولاً وقبل كل شيء، صورة، وسيظل صورة أبداً"


(1)

أخبروا أسماء أن أباها –حيثُ يختفي- لم ينسَها. ليس فقط لأنه يحب أطفاله، وأمها. لكنه في الصعيد –حيث يختفي-، وفي الصمت –حيث يحتمي- يذكرهم، ويستعينُ على طلب رزقه بصبرهم.
أخبروا أسماء أن أباها لم يقصد ألا يخبر والدتها عندما تقدم لخِطبتها، أنه زوجٌ لأخرى، وأب لعيال كبروا. وأن أمها عندما اختارته لتدينه، لم تطلب الطلاق عندما عرفت أنها زوجته الثانية، بل استعانت بالصبر وتعزّت بها عندما جاءت للدنيا، ثم تلّهت بإخوتها من بعدها أروى، وآمنة، وأفنان..

(2)

أخبروني عن ليالي الصمت الممتدة. حيث الطرق الطويلة التي لا تنتهي من مدينة لأخرى، ومن بلدة لأخرى.
عن الأيام والليالي لا تعني شيئًا وراء مقود الشاحنات إلا بعد مرور الكثير منها.
تقوت روحي من الرحلات الطويلة التي صاحبتُ فيها القرآن. وأصبحتُ –بفضل الله- أستطيع محاورة الجان، وطرد الشرير منها. ففُتِح علي بابُ رزقٍ من هذا..بعدما صرتُ أساعدُ من علية القوم، والأمراء على بليتهم في أرواحهم، أو اقتران نفوسهم بالجانِ المؤذي. ساعدني صديقي في الزواج من أختهِ حتى تعينني على أمر نفسي، فزوجتي الأولى أعياني عنادها، ولم تعد تطيق طريقة حياتي التي أتواجد فيها معها والأولاد أيامًا كل شهر.
طيبة. لا تشتكي. ولودة. وهكذا أصبحتُ أبًا لأربع بنات ووليد رضيع.
في غيابي جمَعتْ القرش على القرش. واشترت بيتًا. وأثثته. وقضت الليالي وحيدة مثلي مع البنات والرضيع
أخبروها عن ليالي الصمت الطويلة.

(3)

ليتَ أسماءَ تعرف أن أباها لم يمت. بل هو مشغولٌ مع تلك السيدة التي أصبحت زوجته الثالثة. لا نعرف إلى أي حد يبلغُ جمالها. لكننا نعرف أنها مريضة. وأنها مستحوذة على أبي أسماء لأنه "مُلزمٌ" برعايتها. لا يخرج إلا وتتعالى صيحاتها إما من جني متلبس فيها، أو من نفسية طفل لم يبلغ الفطام.
أخبروا أسماء أن أمها لم تأخذ من كل هذا إلا " أنتِ أفضلهن" يقولها الزوج في الهاتف، تاركًا إياها متكورة على الفراش، تهدهدُ نفسها.

(4)

ثم يسافرُ ليتزوجَ رابعةً خاليةً من الولد. ليهرب من الثالثةِ التي امتصت دمه.
ثم لا يجدُ من يطلبُ بضاعته، فما عاد يقودُ الشاحنات أيامًا وليالٍ، وماعادَ يستعين بهباتِ من تلبسهم الجان فيقرأ عليهم.
ثم الزوجةُ الأولى على عهدها منذُ تزوج عليها، لا يجرؤ الدخول عليها دون إذنها. ثم إن الحال قد ضاق عليهم، حتى لم يبق في المنزل رطب ولا يابس. ثم طاف أولاده  الكبار في موائد عباد الرحمن يسدون جوعهم. ثم تاركًا أم أسماء مع بناتها في مدينة، وتاركًا الزوجة الثالثة في مدينة أخرى تمتص آخرين بمرضها، وتاركًا الرابعة لأهلها..ومقيمًا لدى أهله في أقصى البلاد.
ثم هوَ أبوكِ يا أسماء. ثم هو من لم يرَ ابنه الرضيع منذ ستة أشهر. ثم إنكم تستعجلونَ الولد ليكبر، ليكونَ ظل الرجال تحتمين بهِ -ولا حامي إلا الله يا أسماء-.

(5)

أخبروا أسماء أن أباها لم يَعِش. وأن أمها إذ تصنع الحلوى لتفرح بأعوامها الثلاثين، تخبز الفرحة بالدقيق والماء وقليل من السكر. وأنها ستكبر تنتظر أباها يكسر صمت الليالي الطويلة. وأن أخاها الرضيع سيكبر يومًا ليتعكز عليه الأب الذي لم يعُد.

___________________________
* العنوان ورءوس المقاطع تنويعات على قصيدة دنقل التي كتبها لـأسماء يحيى الطاهر عبدالله
"ليت أسماءَ تعرفُ أن أباها لم يمت
بل صعد
هل يموت الذي يحيا
كأن الحياة أبد." 

ليست هناك تعليقات: