لم يكن لأحد أن يتنبأ بخراب مالطا قبل أن يحدث، ومرتين تاريخيًا تُدمر وتُسحق، وأهلها هاربون منها، ثم يعودون بعد الخراب ليواصلوا الحياة بشكل ما.
لم أكن لأتنبأ باقتراب الرجل المجنون ذو الكرسي المتحرك من الرصيف الذي أمشي عليه في طريق عودتي من المدرسة للبيت، لكنني رميت الآيس كريم وجريت بسرعة بسرعة..ربما لأول مرة في حياتي بهذا الخوف، وأنا أسمع صوت عجلات كرسيه..وهو يناديني ويخبرني أنه يريد أن يتكلم معي.
ولم أكن أعرف أين سأذهب عندما قررتُ بغضب لأول مرة في حياتي أنني سآخذ أخي صالح ونسافر بعيدًا عن المربية الشريرة التي تود عقابنا وحبسنا في الغرفة على سبيل المرح وأنا التي لا أعرف أبعد من جدران بيتنا في تلك البلاد البعيدة.
ولم أكن لأتنبأ بأننا سنسكن دومًا في أماكن مؤقتة ونظل نبحث عن أماكن أخرى للسكن، وأننا لن نشعر بأن أي بيت كان بيتنا إلا بعد الرحيل عنه، أو الغياب الطويل.
***
من كان يخبرنا أن أم جمعة ستسكن فوقنا، وأن وفاء ابنتها ذات العينين الدامعتين أبدًا – دون أن يسقط منها ولو قطرة- إنما علتها أنها لم ترَ أبناءها مدة عشر سنين.
من ذا الذي كان سيخبر وفاء أنها إذا تزوجت ذاك العربي الثري المريض، لن تتحقق أحلامها؟
من ذا الذي كان سيخبرها أن أحلامها ستغدو هي ذاتها معاول خراب مالطا..وأن الفرح الخيالي لذات الستة عشر عامًا، والبيوت الواسعة، والمال، والنعيم..ورضاها بزوجها الذي عاد بصره بعلاج طويل سيتهدم عندما يخبرها أنه سيتزوج أخرى؟
وعندما أصرت على الطلاق، لأنها ظنت أن الحياة ستتوقف عليها، من كان يخبرها أنها ستترك ابنها ولن تراه ثانية عامًا وراء العام لأن زوجها منعها من دخول البلاد، وحرم على الأولاد رؤيتها؟
لا أحد يمكن أن يلعن أحدًا من أهل مالطا، فتفصيلة واحدة قد تجعل القاتل مقتولًا..
من يصدق أن وفاء يمكن أن تحكي حكايةً دامية في ساعة، ثم حالمةً في الساعة الأخرى..وأن المرض طال عقلها، وأنه صبر عليها، وأنه ما أخرجها من البلاد إلا لأنها تؤذي الأولاد دون أن تعي.
من يخبر وفاء أنها تكرر حكاية أمها المخيفة..أمها التي لا ترى فيها سوى إحباط مشروع كان يدر مالًا وفشل، حتى بعد تخلص الفقر منهم، لم يتخلصوا منه..حيث الفقر في النفوس يا صديقي، حيث أهل مالطا لا يثنيهم خلو مالطا بعد خرابها.
من يخبر أم جمعة أنها أم وفاء الأربعينية، الباكية على أبناءها عامًا فخمسة أعوام فعشرة أعوام فخمسة عشر عامًا، المحدثة إياهم بمغامرات طويلات توسطنا لدى أبناءها في اثنين منها..
من يخبر أم جمعة، أن جمعة ابنها ضخم الجثة –مثلها- و(البودي جارد) الذي يدر عليه عمله المال إذا تزوج لن ينتبه إلا أنه يريد الشقة اللعينة، وأن أخته التي تهدهد جنونها بالأدوية الضرورية تحتاج رجلًا وبيتًا ودفئًا، وأن مالطا ما خربت لما عادت إليهم بعد يومين من الغياب متزوجة بمهر يبلغ خمسة وعشرين قرشًا من رجل غريب –عطف عليها وعطفت عليه-..كانت قد استوفت حسابات "الصح" بما تبقى من عقلها المكدود.
وأنهم إذا طلقوها منه، وحبسوها في المنزل..ونادَوا يا وفاء اغسلي، يا وفاء هاتي، يا وفاء رتبي، يا وفاء تعالي، يا وفاء اطبخي/نامي/اجلسي/قومي/انزلي/اطلعي لم يغسلوا عارهم ولم يعيدوها "بنت ناس" تشرفهم كبقية أخواتها اللواتي ينمن في بيوتهن الدافئة يرقبن أطفالهن وهم يصيرون صبية وصبيايا- شبابًا وشابات- يستطعن حضور زفافهم دون الاكتفاء بمكالمة باكية يتحدث الأولاد فيها بلهجة غريبة..وتحتضن الأم فيها سماعة الهاتف مغرقةً إياها بالقبلات
***
لم يخبرنا أحد بعد بالموعد..لكن يمكننا أن نحاول بالحكي أن نتتبع الإشارات..أو نتسلى عما لا نعلم بما رأيناه اقتربنا أم لم نقترب.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق