تقريبًا لا شيء يُعِدّ لحياة الأمومة إعدادًا كافيًا.
منذُ صغري استمعت لتعليمات أو تحذيرات تبدأ أو تنتهي بـ"لما تبقي أم إن شاء الله.."، وسياق الكلام الذي تُذكر فيه الجملة يكون حثًا على سلوك معين أو تجنبًا لسلوك لا يصلح عندما أكون أمًا، بالإضافة طبعًا لتهديدي بأن عقوقي سأراه في أولادي عاجلًا غير آجل.
***
كابنة كبرى لطالبين، ثم عاملين تحملتُ المسئولية باكرًا. فشاركتُ في أعمال المنزل، والاعتناء بإخوتي، حتى نهاية الثانوية تقريبًا. وعندما وُلِد أخي الأصغر (باثنين وعشرين عامًا) أخبرتُ أمي أنني لن أساعد.
كنتُ أتوق للتحرر من كل ما أستطيع التحرر منه، بما أنني أعيش في عالم خفي خيالي واسع الأفق تملؤه الروايات، وتشده رغبات وفورات وحماسات الشباب، وعالم واقعي مُقيد بقيود دينية واجتماعية.
في الجامعة شاركتُ في كل ما يمكنني المشاركة فيه. دراستي علمية، ونشاطاتي متنوعة بين ما يخص مجال عملي المُحتمل، وبين اهتماماتي الأدبية.
غالبًا وبشكل غير منطوق، كان من المُنتظر أن يَعقُبَ الدراسة عمل أبرع فيه. أما الزواج والإنجاب فهو أمر ثانوي تتساوي فيه نسبة حدوثه وعدمه. وبالتالي فالتركيز على ما يغذي ويفيد مجال عملي كان هو الأولى والأكثر منطقية.
ظللتُ عشر سنوات أرفض مشاريع الزواج لعدم تناسبها معي، فهي إما مناسبةً لما يبدو من لبسي وعائلتي أنه يشبهني، ولا تشبه شخصيتي الحقيقية. أو يُرفَض من يتقدمون للزواج مني لأنهم ظاهريًا لا يشبهون أسلوب حياتي أو لأسباب عائلية ومادية.
وخلال هذه الفترة تغيرتُ وتقلبت شخصيتي كثيرًا، لكن بقي الخوف من المسئولية يتعاظم ويزداد ثقلًا في نفسي.
ثم حدثت الثورة، وجربتُ كثيرًا من الأفكار، وغيرتُ رأيي في كثير من الأشياء، وتغيرت مخاوفي بمخاوف أكثر عمقًا وواقعية.
***
لما تزوجتُ أخيرًا، وانتقلت لبلدة ساحلية هادئة وبعيدة عن مدينتي، استشفيتُ فيها قرابة العامين.
كنتُ محتاجة تمامًا للراحة والهدوء، والتعامل مع وحوشي الداخلية، وصدماتي الصغرى والكبرى. بعيدًا عن أهلي وأصدقائي وأنشطتي وحياتي. بيت صغير في مكان غريب كافٍ لإعادة التوازن لكل هذه الفوضى التي خلفتها وراءي.
ورغم أن احتمالية الإنجاب أثرت في قراراتي وفي اختيار شريك حياتي، إلا أنني لم أرغب البتة في الإنجاب أول سنين زواجي.
رأيتُ أن من الظلمِ أن آتي بطفل لهذا العالم القاسي، وأنني لا أعرف ماذا أخبره وعلى ماذا أربيه. شعرتُ أن كل قناعاتي غير راسخة، وكل ما عرفته يحتاج فحصًا. وأنا غير مستعدة لكل هذا.
احتفظتُ بهذه الأفكار لنفسي، ناجيتُ بها نفسي ومن يعلم السر وأخفى. مكثتُ ثلاث سنوات إلا أن أمر الله بخروج ابنتي للعالم.
قرأتُ كثيرًا جدًا، واستمعتُ لكل ما أمكنني كاستعداد للمرحلة القادمة. لكن سذاجتي هي ما دفعتني للاعتقاد أن هذه هي طريقة الاستعداد المُثلى. وهو أفضل ما ظننتهُ وقتها.
***
أول ما اصطدمتُ به واقعيًا في الأمومة هو تجربة الولادة. فبقدر ما أعددتُ لها كانت أصعب تجربة مرت علي في حياتي. كنت أتصبر على آلام المخاض أني سألد ولادة طبيعية، لكن الأمور تعقدت ودخلتُ لإجراء الجراحة لإنقاذ الجنين بعدما نفذ الماء المحيط به تقريبًا وتلوث.
ثم أول ما عدتُ للمنزل من المشفى، فُتِح الجرح. وظللتُ أتردد على الطبيب يوميًا لمعالجة الجرح الذي لم يلتئم حتى مرور أربعين يومًا.
كل هذا بسبب جرعة مميعات الدم التي كنت أتناولها لإصابتي بالجلطة مع الحمل.
وكل هذا بجانب متاعب الأمومة المعتادة في الشهور الأولى. شعرتُ بأني خُدعتُ في كل ما تعلمته، وما توقعته. والمرء مسجون بتوقعاته إن تمسك بها -هذا درس ثمين انتبهت له بعد ذلك-.
لم أشعر بما توقعت أن أشعر به، كنت أنظر داخلي، فلا أرى شيئًا وسط كل هذه الآلام من الرضاعة ومن الجرح، ونقص النوم، والبكاء المتواصل الذي لم أتعلم كيف أتعامل معه، فكان الشعور بالعصبية والغضب والإحباط يفترسني أيما افتراس.
لحظات نوم صغيرتي في آخر الليل هي أثمن اللحظات في ذلك الوقت، وكلمة طيبة ذكرتني بها زائرة مهنئة بأن كل هذا ثواب وأجر (وكان هذا لا يعزيني وقتها ولم يخطر ببالي حتى ذكرتني)، وكلمات بلسمية من صديقة تخبرني أن كل هذا سيمر. وستغلب المشاعر الطيبة كل ظلام هذه الأيام. وقد كان.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق