الأربعاء، أغسطس 23، 2023

26

 عزيزتي نور ..

كل شعور له وجهان على الأقل، فكل ضعف تشعر به يحمل شيئًا من احتياج، وكل قوة شعرت بها تحمل تمكنًا من زمام شيء ما.

لا بأس إن عبرتِ عن هذا الشعور بطريقة تختلف عن غيرك. أعتقد هذا هو الطبيعي. 

***

نقضي عمرنا كله نختبر ألوانًا من الحب والألم، ودرجات منه، نواجه ونهرب، ننغمس أو نتلهى. نتساءل عن المعنى والمغزي، ونستكشف في الإجابة طيلة عمرنا. كلما ظننا أننا وصلنا لتعريف، تضيف الحياة وتمحو وتستبدل.

أعجبُ من شخص لديه إجابة ثابتة محدودة للحب. من أين أتى بها؟ كيف وصل إليها؟ 

وأعجب كل مرة من نفسي، عندما تمر بي صروفُ الحياة، وأواجه الموت- كيف تهتز الأرض تحت قدمي، وكيف ينكشف الغطاء عن عيني فأُبصر ما لم أبصر.

***

ما أنا إلا إنسان تنطبق عليه قوانين الطبيعة البشرية، وقدري الآن في هذا العالم أن أكون امرأة، وزوجةً، وأمّا، وابنةً، وصديقةً، وشخصًا تقليديًا، أو شخصًا عجيبًا، مثار حب، أو مثار كرهٍ، مَثَار رغبةٍ، أوإعجابٍ، أو مَثار نفورٍ- حسب مسافة كل شخص مني.

نشأتُ من بيت له ظروفه، أتممتُ دراستي في مجالٍ أحبه، واهتممتُ بمجالات مختلفة أخرى أحبها. قابلتُ أناسًا كثيرين، أحسنا إليهم وأحسنوا إلينا، أو أسأنا إليهم وأساءوا إلينا، جمعتنا السبل أو فرقتنا. 

لا نحتاج وضع تعريفات صارمة لأنفسنا طيلة الوقت، بل كل موقف يحتاج منا تعريفًا أو أكثر من التعريفات الكثيرة التي يمكن أن نتسمى بها. لكن المثير للاهتمام هو أن بعض التعريفات لنفسنا بطبيعتها أكبر حجمًا من غيرها، تضع بوجودها حدودًا أكبر، لأن هذه التعريفات كبيرة -نسبةً للمسئوليات المترتبة عليها- ومتعلقة بأشخاص آخرين -وواجبك نحوهم-. مثل تعريفي كأم أو زوجة مثلًا. 

***

مهما كان استعدادنا للحياة بدروس جاهزة حكيمة، من أول دروس الوالدين، مرورًا بالوعظ الديني، ودروس كل معلم في طريقك..لا شيء يختبر فهمك واستيعابك مثل التجربة.

وغالبًا لا ندخل التجربة بإرادتنا الواعية، وعن ترصد مسبق-بالطبع قد يحدث هذا-، لكن الأشيع أن الحياة تُدخلنا في التجربة طالما نتحرك ونتفاعل مع الناس والأحداث.

بعد أن بلغت الخامسة والثلاثين ظننتُ أني عرفت نفسي أفضل من أي وقت مضى. وأنني أعرف ما سأشتغل عليه في شخصيتي، وما الذي أود أن أحققه في بيتي وعملي، وما هو حلمي، وما هي خطتي. ثم عاجلتني الحياة فورًا بعدها، ودخلت في التجربة. حادث أليم حضرته وعايشت تبعاته لأكثر من عام، وأمور أخرى أقل مباشرة من ذلك.

ورغم أني خبرتُ أحداثًا كبرى من قبل، لكن ليس بهذا القرب، وهذه المباشرة، وهذا التأثير العاصف الذي أنت فيه كورقة في مهب الريح حرفيًا.

بعد هدوء العاصفة، ومرور أكثر قليلًا من عامين، أجد نفسي في حالة من اليأس الناعم، والثقل الجاثم فوق كل شيء في اليوم، أو ربما لم أُتِح لنفسي وقتًا كافيًا للراحة، أو أنني لا أعرف كيف أفعل هذا بالتحديد، وأخافُ أن يأخذ وقت راحتي هذا من الأشياء المهمة في حياتي.

ربما هو سعي حثيث لتصنع القوة حتى أقوى وأواصل. أتقوى حتى أقوى، أو I fake it until make it.


***

ثم هناك نوع من هجمات الشراهة الخفية للحياة، كلما واجهتُ الموت -الفاجع خصوصًا-، أو الأحداث الصادمة. ربما لأنني أهجم على ما يخيفني عادة أو أتجمد. لا أحب الخوف أبدًا. أفهم الآن أنه نوع من تهيئة الجسم والنفس لشيء كبير أو خَطِر، أو لتجنب الألم.

لاحظتُ مثل هذه الشراهة للحياة عند بعض من اقترب من الموت، وعند بعض من يمرون بحالات كرب، أو اكتئاب. وهو اندفاع نحو الممنوعات أو كل ما لا يناسب الحياة الصحية السليمة. كإفراط مفاجيء في الأكل، أو التدخين، أو الجنس، ودخول في علاقات مستحيلة، أو انغماس في سلوكياتٍ أنانية غير مراعية لمن حولهم. كأن إدراك أو تذكر أن الحياة مؤقتة تدفع بعض الناس للاغتراف منها قبل الرحيل.

بالطبع ينقذك المزيد بالتعلق بالله، وهو الحالة المثالية التي يتمنى المؤمن أن يكون عليها. لكن الإيمان يزيد وينقص، أليس كذلك؟

لو صدمتك الحياة أو فجعك الموت وذكرك بزوال الحياة، بينما قلبك ضعيف الإيمان في هذه اللحظة، ستنقاد لخوف الجسد الذي لا يعرف إلا ما يشعر به.

وهكذا يا صَحبي نتعلق بما ليس لنا، ونتمسك بمن ليس لنا، ونبرر بأن كل هذا نابع عن حب لا قبل لنا بدفعه.

وليس شرطًا أن يكون هذا التبرير كذبًا على النفس. هو نابع عن حب بالطبع: حب الحياة، وحب الأمل، وحب الناس، والأُنس بالناس. 

حب الحياة كما تعني لك، حب كل جميل بما يعنيه الجمال لك، حب الأشخاص الذين تألف أرواحهم، وتتجدد نفسك بمصاحبتهم، لأن رؤيتهم للحياة منعشة بالنسبة لك.
وإن كان هذا معنى الحب في هذه الحالة تحديدًا، فطبيعي أن يكون التعبير عن مثل هذا الحب حسيًا، أو مصحوبًا برغبات شَرِهة تتسلل في غير مكانها. 

وحين يحدث هذا، يحدث معه انفصال عن النفس، وعمى عن هويتها ومسئولياتها وواجباتها.وتستمر الحالة إلى أن تنتهي بالملل أو باليقظة أو بصدمة أخرى تنبهك.

أرجو من الله أن يلطف بي وبك وبكل الناس في ضعفهم، وأن يرحمنا جميعًا، ويجبر كسورنا. وأن يرفع كل إنسان رَحِمَ ضعف أخيه الإنسان، ولم يستغله- في مراتب الصدّيقين.

والسلام.

ليست هناك تعليقات: