الأحد، أغسطس 27، 2023

27

عزيزتي نور..


فاضَ حزنك هذه المرة، وأغرق كل شيء في ليل بهيم.

يطول الليل بقدر ما نسمح له، فلا تدعي عينيك المغلقة تخدعك بأنه لا نهار يطلع. قلبك يرى في الألم كما يرى في الطمأنينة. فانصتي له. 


كل عُسر يعقبه يُسر يا عزيزتي، أتذكرين؟

ثم النبع بداخلك فياض، والشجرة التي نبتت هذه المرة -على غير انتظار- لا زالت في مكانها، تغني ألحانًا هامسةً تغطيها نداءاتك العدمية.

علامَ تنادين؟ ومن تنشدين؟

النور بداخلك يا نور، والنبع بداخلك. ارفعي رأسك، دعي الشمس تغمركِ بالضياء.

افتحي ذراعيكِ لنور السماوات والأرضِ، يشفيكِ. لا جَرحَ عصيّ على الشفاء، فاصبري وصابري. 

 

لم تُؤذكِ الشجرة، لم يُؤذكِ العابرون، لم يُؤذكِ السوّاحُ، بل ظُلمك لنفسك، والنسيان.

أما الشجرةُ فنبتت في وقتها لتستظلي تحتها في هذه الشدة، هذا الدرس الطويل الذي أتاكِ لتتعلمي عن نفسكِ، وعن الوجود، وعن المحبة.

والألم لا بد منه، لا بُد. مُصاحب لكل ولادة في هذا العالم. مُصاحب لكل نفس ترتقي. إن أطلتِ النظرَ له كنتِ كمن يطيل النظر في الحروف دون أن يعي رسالة الكلمات. فانصتي، استعيني باللطيفِ الودودِ، وأنصتي.

***

عزيزتي ..

لم يمر في حياتك إلا من كان مكتوبًا في اللوح المحفوظِ أنه سيمر عليكِ، ولم تألف روحك إلا من عرفتِيه وعرفكِ منذ الأزل، ولم تملكي من قلبكِ شيئًا عندما مسّكِ الحب. هو شعاع من شمس، ونهر من نبع، وشجرة في حديقتك. 

والأنسُ حاصلٌ بالله أولًا وآخرًا. الأُنس بالله فيكِ، وبالله في الناس.

والعبور قدر العابرين، كما السياحة قدر السائحين، والنفسُ تنسى وتتمنى الأماني، فلا تنخدعي بأماني النفس، وتعلقاتها التي تستبقي كل عابرٍ فاني، فتغرقك في الحزن على ما لن تنالي.

أما هذا الحزن الطويل يا عزيزتي فأخشى من توحشه أن يغطي حديقتك بكل طفيلي من الحشائش، ويدفن النبع بطبقات التراب، ويعميكِ، ويميتُ الشجر.

 فالحزنُ "يُضعفُ القلب، ويوهن العزمَ، ويضرُّ الإرادة"* ولا شيء يُغذي الظُلمة مثل حزن المؤمن.
وأنتِ في قدركِ في المكان والزمان الصحيحين، ويصحبكِ من هو مكتوب أن يصحبك. وما كان قد كان، وما هو آتٍ هو آتٍ.

***

لا بأس إن نسيتي..ها أنتِ تتذكرين. 

لا بأس إن جُرحتِ، ستُشفين. 

لا بأس إن اتسعت الهوة في صدرك، سيعبر منها النور، وستعبرين للسلام. 

لا بأس يا عزيزتي إن استوحشتِ، هذا نداء يُذكرك بأصل الأُنس -بالله أبدًا يا نور، بالله في الناس وفي كل شيء- 

لا بأس إن أحببتِ العابر/السوّاح/الفاني، فأنتِ كذلك: عابرةٌ/سوّاحة/فانية. روحكِ من روحهِ، وروحهُ من روحكِ وقدَركما المعرفة بقدْرِ مصافحة عابر السبيل لعابر السبيل. 

تعرفين هذا جيدًا، وصلتك الإشارات، وعرفتِ من أين أتى اسمك السري، وماذا يقول قلبك عندما يطمئن، ويذكر.

يا لغبطتكِ! في عالم الأرواح لسنا مستعبدين لأجسادنا، ولا بظلال نفوسنا. نحنُ أحرار. أنتِ حرة. وهو حر.

أنتِ الشمس وهو الشجرة. أنتِ الشجرة وهو الشمس. 

أنتِ البحر للشاطيء. وهو الشاطيء للبحر.

 أنتِ الحيتان في البحر، وهو البحر للحيتان.

أنتِ الطير وهو السماء

هو الطير وأنتِ السماء

فما ضرّكِ لو افترقت صورتكما؟ 

 

فتذكري، وأبشري، واطمئني. 

في أمان الله.

 

 

 

------------------------------

* من كلام ابن قيم الجوزية

ليست هناك تعليقات: