عزيزتي نور
أنا تائهة تمامًا. أقوم بمهام يومي وشؤون أسرتي بالحد الأدنى الذي لا يُظهر انهياري التام. لا أعرف متى سينهار تماسكي.
نشهد هذه الأيام مجزرة في غزة منذ السابع من أكتوبر. استشهد حتى الآن مايزيد عن 6 آلاف شهيد، نصفهم تقريبًا من الأطفال.
العالم قذر وقاسٍ وغاية في العنف، والظلم طاغٍ وزاعق، لكننا نرى الرحمة والصبر والجلد والتشبث بالحياة وسط كل هذا. هم الأبطال حقًا، وأصحاب النعيم نراهم ونسمعهم قبل أن يسقط عليهم مبنى أو تُطلق عليهم رصاصة.
نحن أرقام يا نور، لقد قرر العالم القوي أننا الضعفاء لا حق لنا في الحياة حتى يقرروا. وأن أطفالنا ليسوا إلا دواجن. وأنه من الطبيعي أن تُمسح أحياء كاملة والعالم يتلكأ، ويحك في مؤخرته، ويسألك: هل تدين نفسك وعدوانك وصراخك في وجوههنا بعد أن سحقناك لسبعين عامًا ويزيد -يا قليل الأدب-؟
لستُ في غزة ولا الضفة، ولست في مدينتي يطحنني الغلاء، ولست منفية خارج وطني أحتمي في بلاد أخرى من مدينة لمدينة أخرى لأني بلا جواز سفر، لأنني مُدانة بحكم سياسي بالسجن طيلة عمري لضبطي وهاتفي يحوي صورة شعار ممنوع. لم أُعذب وأُضرب وأكهرب. حدث كل هذا لمن حولي بالضبط، وقدر الله أن أفلت.
كنت في مواقف عنيفة ودامية وانتهت. والحمدلله.
وعليه فلا شيء يبرر انهياري، ولا شعوري بالوحدة الباردة. الحمدلله، أعيش في بيتي آمنة في سربي، وعندي قوت يومي، ووالله حيزت لي الدنيا بحذافيرها. وأعلم وأعي ما أنا غارقة فيه من النعم. لكني زاهدة تمامًا في الدنيا، أتشبث بإيماني بالله تشبت الغريق بجذع شجرة، وأجر نفسي جرًا. وأتألم ككلب مبقور البطن يعوي في الشوارع، ولا حول ولا قوة إلا بالله.
***
كل شيء مؤلم. التفكير في أي زمن مؤلم، الخروج للشارع مؤلم ويحتاج مني محاورات لعينة لكي أجر نفسي جرًا لفتح الباب والخروج في الشمس. أذكر نفسي بالحمد والامتنان، وبأنني بخيرالآن، وأنه لا دماء تخرج من جثة من أحب أمامي، ولا جثث ميتة أمامي، ولا أحباب يقطعون في لحمي الحي بسكين ثَلِمة، وأنني افتقدت بعض الحب وبعض الصحبة ولم أُعط حق الاعتراض، ولا بأس بذلك. لكل منا نصيبه من الألم. لسنا في الجنة بعد.
وكل ما علي فعله أن أسمح لنفسي أن تعترض وترغب، وأسمح لها بالكلام والبكاء، وبالشعور بما تشعر به بدل التعديل المستمر عليها. وأن أذكر كل طيب عشته ورأيته وهو كثير.
كبرت الآن ويمكنني أن أفعل ما أريد..لماذا إذن لا أستطيع أن أفعل أي شيء لعين أود فعله؟
لقد انفصلت عن نفسي حتى أنني لا أستطيع الآن أن أرغب في شيء وأسعى خلفه. كلما رغبت في شيء قيل لي: هل أنتِ متأكدة أن هذا ما تريدين؟ فأمشي خطوتين، ثم أتوقف من الملل من كثرة التفكير لأتأكد.
تُخبرينني يا نور أنني تعرضت للاستغلال مؤخرًا، وأن ما أشعر به ليس حبًا، وأن أشعر بالألم كاملًا وألا أقاومه حتى يأخذ دورته ويخفت، وأن أستسلم لقدر الله في السراء والضراء.
أنا مؤمنة بالله وبالقدر خيره وشره. أنا فقط لا أفهم معنى أن أعيش الألم بدل أن أقاومه أو أهرب منه كما اعتدت. وأجد صعوبة بالغة في قبول أنني تعرضت للاستغلال، وأن تعاطفي مع الأذى وصل لهذه الدرجة. هذا كلام غريب ما زلت أهضمه.
أجلس ساهمة، أقوم وأقف ساهمة، أسبح طيلة الوقت في رأسي، فأجدني في المغرب ولم أصلي العصر بعد، أو اتفقت على موعد في الخامسة والآن الساعة السابعة أو العاشرة أو الواحدة فجرًا. أظنني في الأحد فإذا أنا في الخميس.
لا أريد أن أتأكد مما أحب أو أرغب ..أريد أن أتصرف وأصل وأنجز وأختبر الحياة، أو فلأمت وأنتهي من هذا كله. وليرحمني الله حية وميتة. أريد ألا يمر هذا العام وأنا جامدة لا زلتُ أجر قدمي وأتعثر.
أريد أن أتصالح مع قلبي، ويتصالح معي، وأن أحبني بدل إغداق الحب على من يميل له قلبي، وسكب الباقي من الحب الكثير على الرصيف، دون اعتبار لي ولواقعي ولعالمي الملموس. أريد أن ألملم روحي وعقلي وقلبي وظلي واسمي على بعضهم، وأمشي ككيان متماسك يعرف بعضه بعضًا، ويرحم بعضه بعضًا، ومتصل بالله في كل حين.
***
كلٌّ إلى زوال يا نور، ونعم لا زلت أشتاق إلى من أخبرتك عنه، ولا، ليست لدي طاقة للحديث عن هذا الموضوع ثانية. ونعم، لا يهمني الآن التفريق بين الواقع والافتراضي في المشاعر، فنحن كآدميين نشعر بكل ما نتفاعل معه طيلة الوقت، ولأني جرؤت لأول مرة من زمن أن أترك نفسي تشعر بما تشعر به وكفى، فلتشعر بأي شيء لعين تريده، ولن تتحكم فيّ مشاعري بعد اليوم. سأعرضها وأسمح لها تظهر، ولن تقودني،
واللعنة على الشعر والألم والأمل. وعلى الحسابات والصواب والخطأ، وعلى الوعي والنضوج والمسؤوليات، وعلى الكتابة، والمحاولات اللانهائية للقيام، ومراعاة من نحب. اللعنة على كل أذى طالنا، وكل أذى لأنفسنا بأيدينا، وعلى كل المحاولات المضنية لمنع تناثر رذاذ هذا الأذى الوسخ على من حولنا.
ولا تبتئسي..كل يمر. وأستغفر الله من كل هذا وأتوب إليه.
والسلام.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق