الأحد، مايو 12، 2024

الارتطام الثاني

إذا سقط جسم حي على الأرض من ارتفاع شاهق، فإنه تبعًا لقوانين الفيزياء إن يرتطم بالأرض الصلبة سيرتد عنها، ثم يسكن ثانية على الأرض.(لأنه لكل فعل (سقوط الجسم) رد فعل (مقاومة الأرض) مساوٍ له في المقدار ومضاد له في الاتجاه (السقوط لأسفل، والمقاومة لأعلى)).

بهذا المعنى يرتطم الجسم بالأرض ارتطامين: الأول غالبًا ما تتكسر فيه العظام، والثاني: يسكن على الأرض وتسيل الدماء إن انفتحت الجروح. 

الفكرة هنا: أنه في احتمال ما قد ينجو الشخص من تكسير العظام، لكنه لن ينجو من النزيف الداخلي الذي سيميته.

***

سقطت من حالق -هذه المرة كان الارتفاع الأعلى في حياتي- بقدر ما غذت المثالية تصوراتي عن نفسي وعن غيري. 

دواخلي متكسرة، وأنزف بلا توقف. لم أمت وإن تمنيت.

ولا أعرف بعد كيف أوقف النزيف، وكيف أسامح نفسي على جهلها وغفلتها وظلمها ومحاولاتها العمياء لتغيير ما لا يقع في نطاقها بدل تركيز كل هذه الطاقة على ما ينفع النفس ويسمو بالروح.

***

توجد مسافة طبيعية بين المثالي والواقعي طول الوقت. ومن الطبيعي أن يسبق المثال الواقع. إن كان الفارق بينهما واضحًا في ذهنك لن يضرك تفكيرك المثالي، وإن كان سيجعلك رؤيتك مثالية أحيانًا، أو ثورية أحيانًا أخرى.
 

تبدأ المشكلة عندما تحاول فرض المثالي على الواقع قسرًا. بينما الطبيعي والفعال هو أن الحياة فن الممكن، وما لايدرك كله لا يترك كله. وأن التحسن في أي شيء بطيء ويحتاج مثابرة واستمرارية جهد وتذكيرا مستمرا.

ضرر المثالية هو أنها تحدد رؤيتك للعالم بما في خيالك (لأن تصوراتك المثالية خيال)، لا بما هو طبيعة العالم وواقع الأشياء. أي أنها تعوق بينك وبين الرؤية الواضحة لواقعك وواقع من حولك، وبالتالي لا تساعدك في اتخاذ قرارات سليمة في طريقك.

بتعبير آخر: المثالية نوع من العمى. يكون ما تبحث عنه نصب عينيك، بينما تلهث بحثا عنه في أطراف الأرض، لأنه لا يطابق تصورك/خيالك عنه.

***

أرى الرغبة في التعبير بالكلمات تخفت (عموما رغم أني أكتب الآن) وتبدو بلا جدوى، والشغف بكل ما هو جميل يخفت، والرغبة في فعل أي شيء حقيقي يخفت.وأقول لنفسي: سيمر. هذا أيضًا سيمر.

ماذا لو أحببت كل المتعبين وغفرت لكل المسيئين، فلن يخفف من تعبهم شيئا إن كنت المُتعبَ الذي ينتظر الخلاص من بشر مثله. ولن يغير ألم الإساءة التي أصابتني. فلماذا أنحت في الماء، وأهدر عمري؟ ولماذا لا أحب نفسي المُتعَبَة والمُتعِبة بما يكفي، ولماذا لا أغفر لها إساءاتها في حق نفسها؟ 

تعلمتُ بالتجربة أن رعاية النفس هذه -عوضًا عن حبها- صعبة لمن لا يرى نفسه جيدًا، ولمن لا يملك نموذجًا سليمًا بما يكفي ومقنعًا له ليقتدي به.  

ومن لا يرى نفسه جيدًا ويعرف مكانه لا يرحمه العالم، ويجد نفسه في طريق كل من هب ودب. سبيل مفتوح لكل ذي حاجة. ولهذا لا بد من الحدود والأسوار.

مسؤوليتي نفسي: أن أعفو عنها، وأتحمل ألمها. وأحميها. ألا أسمح أن تأتي الإساءة والأذى مني لها بأي حال، فنصيب النفس من أذى العالم يكفي ويزيد.

والصبر. الصبر الجميل على هذه الليالي الظلماء، الصبر على قلة معرفتي بالصبر، وقِصَر أنفاسي، وعبثية أملي في تغيير ما لا يد لي في تغييره، وهو كل شيء تقريبا خارجي وعداي. أقصى ما يمكنني تغييره هو في نفسي وحسب، وما أستطيع وأظلّ أحاول فيه وحسب.

لن يرضى عني من أتمنى أن يرضى عني، والبحث عن رضاهم بلا فائدة. لن يحبني من لا يحبني وإن قطعت له المسافات وقطعت من لحمي الحي. لن يعم الحب العالم إن اتسع صدري لأذى أكبر.

تصورات الآخرين عني مشكلتهم وحدهم، ليس علي إصلاح أي شيء. 

من رآني ساقطة، ومن رآني قديسة.. كلاهما سواء. ولا شيء أكثر عبثا من إثبات الواضح لكل ذي عقل ونفس وقلب سليم.

لا ينبغي أن أقول عن نفسي أي شيء، ولا أوصل رسالة لأي شخص، ولا لأمي وأبي. لا يهم فعلا. لن يراني كل شخص إلا كما يريد أن يراني أو بقدر ما تتسع نفسه لي.

إن رآك شخص ما بهيمًا، فلن يكفي عمرك كله لتثبت له أنك ليس كذلك. وإنها لا تعمى الأبصار ولكن تعمى القلوب التي في الصدور.

فلماذا تحاول؟ 

 ليرحمنا الله في هذا القاع ويضمّنا لحنانه، إنه على كل شيء قدير.

***

ما كان كان، وما سيكون سيكون. وقع الأذى، وتكسرت العظام، وما يهم أحيانًا ليس تمام الشفاء بقدر العودة لأن تكون إنسانًا فاعلًا، مثمرًا يعرف قدر نفسه في العالم، ويصبر حتى تلتئم عظامه بما يكفي ليتحرك ويكمل ما عليه.

وما أنا فيه الآن لا يلزم إلا الاستسلام للموج، وانتظار التئام العظام وشفاءها -مع قليل من آه هنا، وبكاء هناك- وتذكير نفسي بواقعي، وإمكانياتي، ونعم الله التي لا تحصى عليّ. أكتب هذا لأتذكر. لأن من ينسى لا يتعلم، والحمدلله من قبل ومن بعد.

ليست هناك تعليقات: