الجمعة، يونيو 18، 2021

محاولة 4

 انتبهتُ لنفسي وأنا أتهرب من الكتابة بحجج مختلفة. تارةً لأن جسدي مُرهقٌ ويبثُ آلامًا مزعجة في أكثر من مكان، وتارة لأنني أريد أن أنام ولكني لا أستطيع الاسترخاء كفايةً لأنام، ولا أستطيع فعل شيء آخر غير المشاهدة السلبية عبر هاتفي لأي مسلسل أو أي أخبار تافهة لا تعنيني حقًا. 

المواجهة العمدية لما تشعر به، وجلوسك قاصدًا التفكير ليس أمرًا سهلًا، حتى لو أنك تفعله لأثره الجيد، أو لتخفيف العبء قليلًا عن كاهلك.

***

هذا هو اليوم الثاني دون سماع صوت منبهات من هاتف صديقتي وزوجها. 

هاتف الزوج يرن منبهه يُذكر بوقت العمل، وتتصاعد من فترة لأخرى صوت تنبيه لوجود رسائل واردة من تطبيق ما. 

وهاتف صديقتي يرن كل يوم الساعة 11:56 ليذكرها أن (احجزي الصلاة في الروضة في تطبيق اعتمرنا). 


الهواتف والأجهزة اللوحية المحمولة كلها الآن في أمان مع أخو صديقتي حيث سيسافر بها لمنزلها الأخير. 

زارتنا صديقتي وأسرتها في أواخر شهر رمضان من مدينة أخرى سكنا فيها وشهدت بداية تعارفنا، ولما انتقلنا منها ظللنا نعود إليها لنقضي معهم وقتًا. نأكل ونشرب ونتسامر ونجرب أماكن جديدة ونشاهد معًا أفلامًا أو حلقات من مسلسلات (تريد أن تقنعني بأن أشاهدها)، نتكلم عن خططنا المستقبلية وعن آخر ما قرأنا وشاهدنا، وعن أحداث حياتنا الجارية.

كان أغلب الوقت نقضيه في المطبخ تُعد للأولاد ولنا ما طاب، وأعاونها في تنظيف ما ينتج عن كل هذا النشاط الغامر. ثم نجلس نصف الوقت الثاني في محاولة إقناع الأولاد بأن يلعبوا في غرفتهم لكي نستطيع أن نتحدث قليلاً في هدوء، أو نشاهد شيئًا ما ونحن نشرب الشاي.

في الليل، نذهب للفندق لننام أحيانًا، والأغلب ننام في غرفة مخصصة لنا في بيتهم، ونستيقظ لنفطر ونجلس حتى العصر بعد أن قلنا أننا سنرحل الظهر.


لم تزرني صديقتي في بيتي هذا غير هذه المرة، وخططنا للمرات التي تليها، وحلمنا بانتقالهم معنا خصوصًا مع وجود فرصة عمل وحياة في مدينتنا. 

في صباح اليوم التالي سافرنا معًا في رحلة طويلة بالسيارة استغرقت حوالي سبع ساعات، قضينا أسبوعًا تقريبًا في مدينتين نسكن نفس الفنادق، ثم اتجهنا عائدين لمدينتنا ونحن نأمل أن يقضوا معنا يومين قبل التوجه لبيتهم.
فجأة في وسط طريق العودة تصاعد دخان رأيته لما التفتُ. لم أر سوى هذا الدخان ثم أصوات عالية طاغية بداية بزوجي الصارخ "يا رب ما يكون هو..يارب ما يكون هو" والعودة للخلف بأقصى سرعة، وخروجه من السيارة صارخًا "كلمي الإسعاف".

زحف من السلك الفاصل بين الطريقين ليرى صديقه والسيارة مقلوبة رأسًا على عقب، وكل شيء متناثر، وكل شي مبعثر، وكل شيء دامٍ ومترب ومنتهي ومكتوب منذ الأزل.


في مكان لا اسم له، هو برزخ بين مدينتين، لا يوجد لافتة تدل على شي، ولا مَعلَم يمكن رؤيته. فقط طريقان عكسيان ممهدان بينهما سور شبكي فولاذي. الطريق الوحد يتسع لثلاث سيارات، وسرعة الطريق الرسمية 140 كيلو في الساعة.
 

انزلقت السيارة الكبيرة بكل سرعتها وكتلتها بعد أن اصطدمت بسيارة صغيرة متباطئة على الطريق السريع، الذي يتسابق المسافرون فيه أصلًا لكسر السرعة الرسمية..كيف وصلت للسور الذي انحنى ولم ينكسر، وكيف تسبب هذا الانحناء في إقلاع السيارة ودورانها في الهواء مرة تلو الأخرى لتنفض راكبيها منها مبعثرة إياهم الطريق.

وحده الأب والابن والصديق والزوج الحبيب ظل محبوسًا في مقعد السيارة، إلا أن تجمع الرجال وقلبوها. فيستطيع أن يتنفس قليلًا آخر ما تبقى له.

كيف قفز الرجل بجواره يلقنه الشهادة؟ هل رأى مقعده من الجنة وهو يرفع رأسه كلما قيلت الشهادة غير قادرٍ على النطق.

هذا وقت تتنهي فيه الهموم، ويخفت فيه القلق على الأولاد والأحبة وتدبيرات الحياة، وتنعزل عن مسئولياتك، وتنفصل عن كل غريزة لك.


يكفي هذا اليوم.

ليست هناك تعليقات: