الخميس، ديسمبر 07، 2023

36

استيقظت فجأة قبل الفجر، وأمسكت بالهاتف لأرى الساعة، وانسحبت للتصفح لأرى "لا تلتفت كثيرًا" كرسالةٍ موجهة تمامًا، لأتذكر شعاري منذ سنين، الذي كلما نسيته قليلًا دلّت عليه الإشارات، وهو "ملتفت لا يصل".

وهأنذي، أتذكر، وأرى أن الالتفات ليس فقط بالتشتت عن طريق واضح أمشي فيه، وإنما يكون مبدئه في الخطوات الصغيرة على هذا الطريق. الخطوات التي نمشي بها كل يوم، والخطوات التي نخطوها كل لحظة، والأفعال الصغيرة التي نفعلها دون انتباه أول استيقاظنا من النوم.

وأنا تذكرتُ الطريق بعد طول نسيان، لكن الخطوات لم تنضبط بعد. 

تخبرني مرشدتي أني كلما شعرتُ بألم أبحث عن مسكن. لذا تتعثر خطاي، أبحث عن سلوى، وأسكنُ لحلو الخيال، وأعطي من وقتي وطاقتي لما هو ليس واقعًا أو حقيقة، لأن هذا ما كنتُ أفعله طيلة السنوات الماضية كطريقة تعامل مع الحقائق الثقيلة والواقع الصعب. كطفل فَزِعٍ بلا إيمان، يرى نفسه وسط تيار الماء المندفع في نهر سريع الجريان. يرى اندفاع الماء، وعجزه عن التصرف، فيتشبث بالصخرة الثابتة في طريقه -إن وجدت- ويغمض عينيه منتظرًا أن يتوقف كل شيء، أو يأتي من ينقذه. دون أن يرى ما يمكنه فعله، وأنه يمكن أن يُخرج نفسه من الموقف.

***

ثم ماذا يفعل الطفل إن مرّ بموقف العجز نفسه مرارًا؟ يخرج بنتيجة أنه لا يستطيع فعل شيء لا تكون نتيجته دامية، فيكتسب عادات تعزز انفصاله عن واقعه، وعدم رؤيته لنفسه ولا لقدراته. ويختار أمام أي موقف صعب أن يكون المُصلح وحمامة السلام وجالب البهجة. يخرج من حقيبته قناع المهرج، أو الحكيم، أو المصلح الاجتماعي، أو أيًا ما يتطلبه الموقف، بغض النظر عن حالته وحدوده وما يريد. لأنه في حالة تهديد مستمر بالطرد من اعتبارات النجاة في هذه الحياة.

وهكذا يصير كل واقعه مؤلمًا، وإن لم يقابله في اليوم ما يؤلم، فالألم المُخزن في ذاكرته وجسده من كل ما حدث معه أكبر من أن يمضي في حياته دون أن يعالجه. ومن ثَمَّ لابد من مسكنات، وخيالات تجمّل الواقع، أو تكسبه المعاني، أو تطرح حلولًا وبدائل، وتوفر مخارج طواريء إذا ما اشتد الألم غير المفهوم.

شيء آخر: كل شيء حقيقي في الحياة تريد الحصول عليه كشخص بالغ يتطلب جهدًا، وعملًا مستمرًا، وخطوات صغيرة راسخة في اتجاه هذا الشيء. وهذا يتطلب معرفتك بنفسك وقدراتها، وخيالًا لما تريد تحصيله أو اكتسابه، ووعيًا لتغيير ما يلزم، وجَلَدًا لتنفيذ ما تسعى إليه، وصبرًا على كل هذا.

صبرًا على نفسك وتربيتها، ومصاحبتها، وسقطاتها، ومعرفة السبب، والعمل بهذه المعرفة، ووضع الحدود مع ما ومن حولك، وعلى الخطوات الثقيلة الصعبة في البداية التي تحتاج تكرارًا مملا حتى تُؤتي أُكُلَها.

فإذا نفد الصبر، وانتهى مفعول المسكنات، ولم يكن المرء جَلِدًا بما يكفي، رأى في الموت خلاصًا، وراحة. وهذا ما يفسر لي جزءًا من راحتي لفكرة الموت، وطلبها، والدعوة بألا يطول عمري.

لازلتُ أتعرفُ على نفسي الجديدة، وأتصبر على ما أجده بخطوات متعثرة. ولستُ خفيفةً أبدًا. أثقلتني كل الخبرات التي خرجت منها بنتيجة خاطئة مفادها أن وجودي ثقيل في هذا العالم، وغير مُرحب به، وغير محبوب. فكنتُ أتلقى المحبة ولا أراها فعلًا، وإن رأيتها تبهرني فأغلق عيني بقوة لأنها تؤلم عيني، وتؤلمني جدًا لأن جزءًا خفيًا يؤمن أنها مستحيلة وبعيدة. 

وهكذا أعيش بالحب الهاديء اليومي البسيط الذي لا يتحدث كثيرًا، بالحب الذي يبتسم ولا يضحك، بالحب الذي يبكي في صمت ولا يصرخ أو ياخذ حقه في هذا العالم. أعيش وأعبر عن الحب كتعبير الجبل عن نفسه: مهما علت قمته، فعمقه أكبر بأضعاف مضاعفة.

وما حدث أن ثار بركان في الجبل، فتصدع وفار وانهارت أجزاء منه. وظهر للسطح حاجات أولية لا تعرف أين تضع نفسها بعد.

وإن كان الحب الحقيقي كالنهر، يمكن أن ينساب بهدوء، ويمكن أن يهدر ويقتل. فلا بد من معرفة إن كان الوقت مناسبًا للسباحة، أو الغوص، أو المشي على الشاطيء. وإن عرفت الوقت المناسب والكيفية نجوت. وإن حصرت نفسي في جانب واحد من هذا النهر فقد ضيقتُ على نفسي واسعًا، ولن يفيدني إن تقلّبت أحوال النهر، كما طبيعة الحياة.

لا بد من إعادة تعريف كل شيء، ومعرفة نفسي من جديد. 

هذا هو مطلب المرحلة الذي كلما هربت منه -لصعوبة الأمر- واجهتني المواقف وتعامل نفسي معها.

***

أريد اختتام الحديث بموقفين يسجلان خطواتي البطيئة جدًا للأمام. موقف الجبل، وموقف الماء.

موقف الماء أني أتعلم التعامل معه بتعلمي الفعلي للسباحة. وسبب تعلمي السباحة هو موقف منذ ست سنين حدثت لي فيه نوبة هلع لأني وجدت نفسي على عمق 20 مترًا تحت الماء. كنت أرتدي سترة نجاة، ونظارة وأنبوب تنفس لأشاهد الشعاب المرجانية وكائنات البحر، وقيل لي أن الأمر لا يتطلب مهارةً بالسباحة -وهو كذلك-. إلا أن المنظر أفزعني. شعرت أني أهوي من حالق، ولا أرض سأتحطم عليها حتى، سقوط لا نهائي. وهو ما كنت أراه أحيانًا في كوابيسي بالعكس -تحليق لا نهائي، ولا مرسى لي-.

وعزز فزعي هذا عدم تحكمي بجسدي، صار يدور حول محوره وهو طافٍ بفعل سترة النجاة، لم أستطع التوجه ناحية الأمام أو الخلف، أدور ككرة فلينية على سطح الماء.

حتى الصراخ كان متقطعًا محددًا (خرجوني ..خرجوني). لما صعدت المركب كنت مرتجفة تمامًا، وتركني المرافقون أرتجف كورقة مخلوعة من الشجرة. ظنًا أنهم سيتركون لي مساحة لأهدأ وألملم حرجي. لم أكن مُحرجة. كنت فَزعًة فقط.

حملت ابنتي ذات الثلاثة أشهر وقتها -فيما أذكر- ولم أقو حتى على ضمها طويلًا. لكني وعدت نفسي ووعدتها أني ساتعلم السباحة يومًا، وسأعود لتجربة الغوص هذه ثانية. كما أنني لا أريد أن تواجه ابنتي أي فزعٍ كهذا دون أن تتعلم أن تسحب نفسها منه، وتمسك بزمام أمرها.

أمس وبعد ما يزيد قليلا عن ست أعوام من ذلك الحدث، وبعد شهور من تعلم السباحة وكسر رهبة الماء والخوف من الغرق، دخلتُ عمقًا يزيد عن الثلاثة أمتار. وفوجئتُ بنفسي أفزعُ ثانية عندما أنظرُ للعمق، رغم أني كنت أتحرك بسهولة على السطح. الفارق هذه المرة أني حاولت ثانية. أخذت وقتًا طويلًا لتهدئة جسمي الذي يخزن الفزع، بينما ينساه عقلي الحاضر، وصرت أنظر للعمق بعينين مفتوحتين. رئتي لا تسعفانني إلا بقدر ضربتين أو ثلاثة ويعود وجهي للسطح طلبًا للأكسجين، لكني أعود لغمر وجهي في الماء والتحرك. وهذا جيد. 

***

أما موقف الجبل فيمكن أن أسجله في المرة القادمة. 


ليست هناك تعليقات: