السبت، ديسمبر 23، 2023

37

اعتزمت عند البدء بالتدوينات المرقمة تحت #36 أن أكتب بعددها الخواطر التي أفكر فيها، وكتمرين للكتابة. لكني لم أكملها لوقوع أحداث أكبر ذهلتني عما هو أكبر من الكتابة، وأجبرتني على التوقف والتصرف خلال اليوم، بلا هدنة للتفكر في أي شيء.

مر عامان على ذلك الأمر، عام كنت مشغولة فيه تمامًا في توابع الحادث العملية، والعام الذي يليه حاولت تجديد سيرتي المهنية، والتحقت بكثير من الدورات والورش. وختمتها بورشة في الكتابة، لمحاولة أن أنظم أفكاري قبل أن أجعلها مهنةً وليست هواية.

تعلمت واستمتعت، لكن أكبر درس لم يكن عن الكتابة بالتحديد، بل عن المناطق العمياء التي لم أبصرها في نفسي، وعن تعاملي مع الدنيا والناس، وماينبغي أن أنتبه له، وما ينبغي أن أختاره.

ولمست ما لم أعرف به نفسي من قبل. منها أني تخليتُ عن التعبير عن حاجاتي، وتجاهلتها عامدة دومًا لصالح ما هو أهم وأكبر (وكل شيء حولي بسهولة اعتبرته أهم وأكبر) حتى انهار كل شيء عندي، ولم أعد أعرف ماذا أفعل وكيف أتصرف أغلب الوقت، فصار لابد من تغيير هذا الأمر، وتعلم التعبير عن الحاجات، ووضع حدود أكثر لحماية النفس.

***

وتعلمت عن الخوف. أزعم أن لدي حساسية خاصة تجاهه ألتقط بها الخائفين وأسعى لطمأنتهم إن استطعت كما اعتدت طيلة عمري كأخت كبرى.

أما عن خوفي أنا فلا يتبادر لذهني شيء واضح يجعلني أعرّفه فورًا، وأراهُ مجسدًا، فأنا لا أخاف الظلام، ولا العناكب، ولا الأماكن الضيقة أو العالية إلخ..كنت أخاف من أشياء معنوية لا مادية. من المسؤولية، من أن أخذل أهلي، من أكون سببًا في أذى، من الخطأ والإثم.

أكثر خوف مادي لدي هو العنف. أخاف أن يجبرني أي عنف موجه لجسدي على أن أفعل ما لا أريد. ولم تسعفني ذاكرتي بسبب مقنع لي. لكني تعلمت أن العقل يحمي المرء بكبت الذكريات فلا يراها إلا بعد جهد، وبالحيل الملتوية التي تساعد المرء على التعامل مع التهديد والهروب منه أو النجاة.

وطريقة تعاملي من الخوف، هي الهجوم على ما يخيفني إن لم يُتَح الهروب أو التجمد. الهجوم خير وسيلة للدفاع عندي. لذا يظن من يعرفني أني شجاعة ومتهورة.

ولأسباب كثيرة منها تخص موقعي في العالم وقدري فيه كأنثى، وظروفي، فإن تعاملي مع جسدي هو تعامل خالٍ من العاطفة تقريبًا. كتعاملك مع مركبة تقلك من مكان لمكان وعليك أن تحافظ عليها، وتحرص ألا تُخدش (عشان عليها أقساط)، وستسلمها بعد انتهاء الخدمة للتراب لتعود لما كنت عليه. 

التعامل مع الجسد يكون شائكًا إن تعرضت للعنف والانتهاك، سواء بالضرب، أو الوصم، أو التحقير، أو التقديس الزائد. 

وبغض النظر عن أي شيء (لأن هذه ليست دراسة وتنظير) فما أريد قوله، أني لم أنتبه لجسدي إلا عند الانهيارات. فلا أعرف حدوده بالفعل. فأتفاجيء كل فترة بقدرته على تحمل الألم، أوبانهيارات أجزاء منه على غير انتظار. 

مقارنة بعقلي الذي ربما تدرب أكثر وانتبهت لما يغذيه أكثر. 

الآن مع كل ما يتعرض له المرء، ومع تقدم السن، وتغير دوري صار الاهتمام بالجسد واجبًا وضرورة. لم يعد يشفع لك عنفوان العشرينات، وقدرة الجسد العالية على التعافي وقتها.

***

فوجئت باختلاف رد فعل جسدي عما كان عليه أيضًا في فترة العشرينات عندما ذهبت للملاهي من سنتين تقريبًا، وركبتُ نفس الألعاب الخطيرة بعض الشيء التي ترميك من حالق، أو تهزك بعنف، أو تسقط من علو فجأة، أو تسير بك في قطار ينقلب في المنعطف لتصبح رأسًا على عقب، وأحسست بجسدي يستجيب بشكل مختلف تمامًا عما اعتدت، ضربات قلبي تتسارع بشدة، وفزع بارد يتسلل في آخر عمودك الفقري بأنك لن تنجو هذه المرة، وستنقطع أحزمة الأمان عن جسدك الثقيل البطيء.

***


في الشهر الماضي، حدث أن استجبنا لرغبتنا في استكشاف الجديد في المدن التي نزورها، وكان الوقت متاحًا فبحثنا عن (غار حراء) لنحاول زيارته كمعلم مهم في قصة الرسول.

بلا أي تخطيط، ومن وحي اللحظة، كما اعتدنا أن نفعل أول زواجنا، فتحنا google maps وكتبنا الوجهة واتبعنا التعليمات. 

فوجئنا بارتفاع الجبل، لكننا تقدمنا. لم نشتر إلا الماء، ولم يكن في رأسي إلا الرغبة في الصعود حتى قمة الجبل، وتصوري أنني أستطيع.

أول خطوات فعلية في الصعود، فوجئت بانقطاع نفسي، وبصراخ ركبتي، لكني صممت على الإكمال.

الجبل شديد الانحدار، وفيه طريق مهتريء من كثرة الصاعدين والهابطين، وأكثر من نصفهم من كبار السن من بلاد شرق آسيا. كنت أرى الواحد منهم يصعد أو تهبط بانسيابية وبجانب جسدهم أحيانًا، صرت أحاكيهم، ففي النهاية لابد أن أغلبهم من بلاد ذات طبيعة جبلية.

سلمتين أو خمسة وأستريح..حتى وصلنا ثلث المسافة تقريبا.

هناك رأيت كيف أن اختيار رفيق الطريق أهم من الطريق. وحفرتُ ذلك في ذاكرتي. اهتم زوجي بي في كل خطوة، اهتم بي وبسلامتي حقًا في كل خطوة. كان يمكنه أن يصعد وحده، لكنه أكمل لأني أريد ذلك، وتوقف عندما رأى أن جسدي يرتجف من الإعياء، وأقنعني بالمنطق والحساب، أننا سنصعد في وقت قدره كذا، وسنهبط في وقت شبيه له تقريبًا، ولا بد أن نحسب هل سيتحمل جسدنا رحلة الصعود والهبوط، أم ستنتهي طاقتنا بعد الصعود، وهل ستغيب الشمس بينما نهبط.

كل هذه الحسابات والتفاصيل لم أنتبه لها، لأنني شخص يركز جدًا في التفاصيل، لدرجة ينسى معها الصورة الأكبرأحيانًا، كما يتحرك إذا اقتنع بالفكرة عامة دون التدقيق في التفاصيل، لأنني أتوه فيها فعلا وأكاد لا أتحرك أصلًا إذا استجبت للاستغراق في التفاصيل.

بعد أن استرحت قليلًا. سلّمتُ أخيرًا أني لن أكمل صعود الجبل ذو الستمائة متر ارتفاعًا هذه المرة، على أن نعود ثانية بعد أن نرفع لياقتنا.

لم يعلمني الجبل عن قدرتي الجسدية وحسب، بل علمني بالبرهان والدليل أن التخفف من كل ما يعيق الارتقاء ضرورة. وفهمت لماذا رحلات الحج، وصعود الجبال في كل الأديان، والمذاهب الروحية مهمة جدًا ومطلوبة. فالجسد لا بد أن تأخذه و(تشقّيه)، ليعرف حدوده، ويتخطاها، ويجد الكنز -روحيًا وجسديًا وفعليًا- في الرحلة.

وبينما ننتهي من هبوطنا بنجاح أعطانا الرجل الواقف أسفل الجبل زجاجات مياه مجانية، وأنا التي رفضتها منه ونحن نصعد ظنًا مني أنه يبيعها - وكما قد اشترينا لتونا زجاجات ماء-، لأنه يبدو كذلك، فأمضي في طريقي ممتنة له ولدرسه الصغير المتجدد بأن لا أثق تمامًا في أحكامي، لأن هناك دومًا متسع لما يخالفها.

كما تعلمت -أو تذكرت- أنه لا بأس إن توقفت في منتصف الرحلة، وراجعت حساباتك، وأخذت فترة إعداد لتعود بطاقة جديدة، وقدرة جديدة تناسب الطريق الذي تريد السير فيه.

ليست هناك تعليقات: