الثلاثاء، أبريل 02، 2024

إلى ماتيلدا

 شفتك إمبارح وإنتي بتنتحري بالقفز وسط الموج الهائج في يوم عاصف، ليجد زوجك وحبيبك رسالة بتقول ما معناه إنك عايزك تموتي وإنتي في عز الحب، ومش عايزة تقعدي في الدنيا لحد ما وهج الحب يخفت من عنين حبيبك، أو تكبري وتشوفي شبابك وهو بيروح. 

وفضل محبوبك منتظرك في محل الحلاقة بتاعكم للأبد بقى، ينتظر بدأب، ويرقص بهبالة محببة على المزيكا الشرقي اللي بيحبها.

فيلم كامل يامؤمنة قايم على فانتازيا ولد صغير اشتهى الست الكوافيرة لما قصقصت شعره، فقرر يتجوزها، وباباه ضربه بالقلم على وشه لما أعلن عن رغبته دي وهما بيتغدوا ع السفرة. 

يكبر ويلاقي ست حلوة ماسكة محل كوافير/حلاقة، ويلاقي بقى حلم حياته ومنتهى آماله. والاتنين بقى لا يأكلان ولا يمشيان في الأسواق، نظرات هائمة، وحب مولع في الذرة. وهكذا فهمت منين بالضبط سحلتنا الرومانسية. 

دلوقتي لو عملوا إعادة للفيلم ده، هايكون عندك اكتئاب عميق خفي، وهو لاجيء مثلا، ولازم يبقى في شخصية ما ولو ثانوية ذات ميول مثلية. العالم اتغير يا ماتيلدا. واللي كتبوا قصتك وصوروها، بيتكلموا بلسان جيل سابق ساهم في تكوينا، وفي مشاكلنا اللي ليها دعوة إزاي شايفين العالم.

***

في كاتب مات من يومين الله يرحمه، برضو بعد مرض، وبرضو وهو صغير نسبيا. وقبلها كان فيه محامي من جيلنا مات متغرب ووحيد بره (مش هانقدر نقول مات في المنفى عشان إحنا مش في عصر أحمد عرابي، دلوقتي بنتنفي من غير ما يبقى حكم رسمي بالنفي).

كلها أخبار بتفكرني إن الموت لا مهرب منه، ومش هاينتظر لما تحقق أحلامك، أو تصحح أخطاءك. وكل الحكم محفوظة خلاص، فلا داعي للتكرار.

كل ده وسط أخبار كل يوم عن غزة. وياه على كل الحقايق اللي اكتشفناها واللي لازم نفتكرها ونفكر عيالنا بيها يا ماتيلدا.

عارفة لما كنت في منتصف العشرينيات من عمري يا ماتيلدا كنت بأغرق في حزن ناقع يعني وليل بهيم، وماخطرش ببالي نهائي إنه اكتئاب، وإنه دلالة على مشكلة لازم تتعالج، كل اللي في سني تقريبا عدوا على الليلة دي. المهم إني احتفظت بده لنفسي كالعادة، وده معناه مسافات طويلة جدا أمشيها وحدي تماما، أهيم على وجهي حرفيا. كان في مقبرة بابها مفتوح في نص شارع أحمد عصمت، كنت بأعدي عليها على طول في الطريق لبيتنا، أخدت فترة أدخلها وأقعد هناك ساعة مثلا، أقرأ الفاتحة وأدعي لكل الناس، وأتخيلني مكانهم، أو أتمنى كده. كل مرة أروح أقف فترة أطول عند قبر بعينه وأقرأ الشاهد وأتخيل قصته أو قصتها. كنت بأرتاح شويه كده وأمشي.

 ***

الموت مش مخيف لي دلوقتي. كان مخيف جدًا لما ماما عرضت عليّ تعلمني تغسيل الموتى (وهو فرض كفاية يعني، لازم مجموعة من الناس تتعلمه عشان تعمله وقت الحاجة)، ثم حصل وحضرت وفاة والد صديقتي وجارتي. شفته قبلها بيوم ولأول مرة يبص لي جامد، لدرجة ظنيت هايقولي حاجة بس ما قاليش. ورحت المقابر معاهم وبِتّ معاهم أيام العزا، بعدها بفترة حضرت وفاة والدة صديقتي نفسها، وقعدت مع جثمانها ليلة لحد ما اتدفنت الصبح. أفتكر يومها حضرت الغُسل، ومن بعده الدفن، والعزا اللي فيه القهوة المغلية ما بتنقطعش عمايلها من ع النار. فاكرة الأيام دي كويس، كنت يا إما بأعمل القهوة أو بأقدمها، فاكرة ريحة القهوة والسجاير. فاكرة البكا والضحك والأحضان، ولحظات الهدوء ولحظات الصخب، وملابس الصلاة البيضا القطعتين خمار وتنورة. وانحباس الكلام عن صديقتي وكلامنا بالكتابة والإشارة.

موت هو جزء من الحياة، مسالم وطبيعي، فيه ألم وفيه مساندة على تحمله. فيه تكاتف وفيه رحمة ومحبة.

***

وحضرت الموت الوحشي اللي سببه ظلم الإنسان لأخيه الإنسان، وخوفه وحبه لذاته فوق أي شيء. حضرت مضطرة غير راغبة. كنت كفرت بالسياسة واعتزلت النزول للمشاركة في أي شغل مع ناس بعد انتخابات الرياسة. ألحت قريبة لي علي لأن في إصابات ومحتاجين متطوعين عموما وفي الإسعافات. رحت ومش هانسى محاولتي البائسة لتوثيق الوفيات بتصوير وجوه الجثث وبطايقهم. تقريبا خمس جثث، مااتبقاش منهم غير بيانات شخص كريم واحد (الله يرحمهم جميعًا) بلغته لجمعية حقوق الإنسان، عشان يتوثق في الآخر كرقم. اللي فاكراه دلوقتي ومش بدقة هو وشه، وإنه كان شغال في التحاليل الطبية، وإن كان الهدف من تصوير ده هو إن أهله يعرفوا. وما أعرفش إلى الآن أهله عرفوا ولا لا. ومصير الأربعة التانيين إيه وهما من غير بطاقات.

بأفكر في صديقتي اللي كانت مهمتها تصوير مئات الجثث في مكان الحدث عشان توثيقها، ما بقيناش نتكلم حاليا بس عند بعض في الفيسبوك، بأفرح جدًا لما ألاقيها مستمرة في حياتها ومبسوطة وكل إنجاز ليها بيفرحني. صلبة كده وكنت بأتطمن لما تكون معايا من أيام محمد محمود.

وبأفتكر إنه أُكلنا يوم أكل الثور الأبيض يوم ماسبيرو والله. والظلم ظُلمات يوم القيامة. والرحمة والعدل مهمتنا في الأرض يا ماتيلدا، وكده كده هي مدة قصيرة وهانمشي.

***

دلوقتي الموت جزء من أفكاري اليومية، ومش بيفزعني ولا بأطلبه (أحيانا بأقوله مش ياللا بقى، بس من غير تشنجات زي كلام ست عجوزة مع قطها).

 السنة اللي فاتت دي عديت بواحدة من أغرب التجارب في حياتي، وتمنيت معها لو أموت. تمنيت ده من قلبي ودعيت بحرارة. لأن مابقاش من نفسي شيء أعرفه، ومش عايزة أحيد عن الطريق اللي ماشية فيه، وفقدت الاستمتاع بفعل أي شيء، وحسيت بتيه عظيم وحيرة. مشاعري كانت عنيفة وغريبة.

واحدة واحدة بقيت ماسكة في الدعاء (ربِّ أمتني إن كان الموت خيرًا لي، وأحيني إن كانت الحياة خيرا لي)، ويعني مع الوقت أذكر نفسي إنه كده كده الموت جاي. إنتِ حية، والعمر قصير. فبجلي ربيع العمر القصير -زي ما بيقول الشاعر-.
واتعلمت كم حاجة عن نفسي، وإيه اللي محتاجة أنتبه له في تعاملي من العالم، وإن المشاعر رُسل مش طغاة، نسمعهم ونشوف هانعمل إيه باللي اتعلمناه، ونجدد نفوسنا ونوسع رؤيتنا، ونمضي في طريقنا بالحب والرحمة.


دلوقتي يا ماتيدا ممكن أنعس عادي على أرض الغرفة وأنا نايمة على جنبي، وساندة راسي على دراعي، وأنا بأنعس بأشوف صديقتي قدامي (ربنا يرحمها) والدم بيخرج من مناخيرها وبقها وأذنها، وتنفسها تقيل زي النايم، وأنا قاعدة جنبها على ركبي في الأسفلت، وسانداها عشان ما تنامش على وشها، وتفضل تتنفس. بأدعي في صمت، وهادية تماما ومستنين الإسعاف، وابنها بينادي عليها، وكل حاجة متنتورة حوالينا، والعربية مقلوبة ورانا، وابن تاني ميت، والتالت بيحتضر، والعربية مقلوبة.

الشمس بتغيب، وأنا عني بتقفل وأروح في النوم على السجادة في بيتي.

والنهر بعيد يا ماتيلدا،

والحب واسع يا ماتيلدا

والله غالب، والله كبير.


ليست هناك تعليقات: