السبت، يناير 11، 2025

وفيك انطوى العالم

دَواؤُكَ فيكَ وَما تُبصِرُ       وَدَاؤُكَ مِنكَ وَما تَشعُرُ

أَتَزعُمُ أَنَّكَ جُرمٌ صَغير       وَفيكَ اِنطَوى العالَمُ الأَكبَرُ

فَأَنتَ الكِتابُ المُبينُ الَّذي    بِأَحرُفِهِ يَظهَرُ المُضَمَرُ

وَما حاجَةٌ لَكَ مِن خارِجٍ     وَفِكرُكَ فيكَ وَما تُصدِرُ.

                                                                 (علي بن أبي طالب)

*** 

أشعر أحيانًا ألا فائدة تُرجى من كتابتي، فقد قيل بالفعل كل ما خطر على قلب بشر، كتبوه بكل اللغات، وحكوه بكل الطرق، فما الفائدة التي تُرجى من أي شيء أكتبه. 

 

لكني أعود وأكتب لأخاطب نفسي وأشباحي، أذكرها بما نسيت أو بما يمكن أن تنساه. وأفتح نافذة لأشباحي وهواجسي لعلها تتنفس وتطير فتتحرر وأتحرر.

 

- متى يهرب المُحب مما يحب؟

- عندما يكون ألم الاتصال أشد من ألم الانفصال.

***

الكتابة فعل تالٍ للقراءة، أو رد على فعل القراءة. لذا أعرف أني سأكتب طالما أقرأ بفضول وانتباه. والقراءة هي للكتب، وللناس، وللعالم من حولك -ولتجاربك إن كنتَ بصيرًا-


ما أقرأه في العامين الماضيين هو بحث عن إجابات لقاعٍ انفتح في نفسي من أسئلة لا ينتهي أحدها حتى يُولد الآخر من بطنه.

 

أقرأ لأقاوم إلحاح اندفاعاتي، وما يمكن أن يذهب بي بعيدًا عن المسار الصحي في حياتي.

 

لم أكن أتوقع أن أعيش لأقترب من الأربعين، ووفَزعتُ عندما ذُكِر في تساؤل عابر عما سأفعل عندما أصل للثمانين والتسعين!.

لسان حالي ما قاله الزهير بن أبي سلمى:

 

سَئِمتُ تَكاليفَ الحَياةِ وَمَن يَعِش        ثَمانينَ حَولاً لا أَبا لَكَ يَسأَمِ

رَأَيتُ المَنايا خَبطَ عَشواءَ مَن تُصِب   تُمِتهُ وَمَن تُخطِئ يُعَمَّر فَيَهرَمِ

وَأَعلَمُ عِلمَ اليَومِ وَالأَمسِ قَبلَهُ          وَلَكِنَّني عَن عِلمِ ما في غَدٍ عَمي

(وأنا أردد هذه الأبيات منذ عشرينياتي).  أعود لأبيات الزُهَير وأقرأ: 

وَمَن يَغتَرِب يَحسِب عَدُوّاً صَديقَهُ       وَمَن لا يُكَرِّم نَفسَهُ لا يُكَرَّمِ

وَمَهما تَكُن عِندَ اِمرِئٍ مِن خَليقَةٍ        وَإِن خالَها تَخفى عَلى الناسِ تُعلَمِ

وَمَن لا يَزَل يَستَحمِلُ الناسَ نَفسَهُ       وَلا يُغنِها يَوماً مِنَ الدَهرِ يُسأَمِ

يخرجني هذا الغرق اليائس  قول النبي الكريم: "لا يَتَمَنَّيَنَّ أحَدُكُمُ المَوْتَ مِن ضُرٍّ أصابَهُ، فإنْ كانَ لا بُدَّ فاعِلًا، فَلْيَقُلِ: اللَّهُمَّ أحْيِنِي ما كانَتِ الحَياةُ خَيْرًا لِي، وتَوَفَّنِي إذا كانَتِ الوَفاةُ خَيْرًا لِي"


 

وما الضرُّ الذي أحدث هذا الثقب الذي لا يُرتَق في نفسي؟ هل عرفته فعلًا بعد أكثر من عام على بحثي عن إجابات من داخل نفسي وتجربتي؟ لماذا كل ما ظننتُ أني عرفتُ لا أُشفى؟  أليست المعرفةُ شافية في أصلها؟

 

 

ربما الحل فعلا في الحركة والاستمرار فيها. في التقدم المستمر للأمام بالانتظام على أفعال يومية صغيرة تغذيها واجبات المرء ومسؤولياته تجاه نفسه ومن يعول. 

 

هل هذه الثقوب هي نقائص نفسي الأصيلة التي كلما اختفى منها واحد، ظهر غيره؟
ربما هذي الثقوب/النقائص هي دافعي للتحرك أصلًا. وأنا يوم أشعر باكتمال أقف أو أموت. لذا لحظات الاكتمال في حياتنا قصيرة. لكي نواصل الحركة (؟)

 


قاومت فكرة أن أعمل على أي شيء عدا ما أحب. إلا أن الحياة لا تعمل بهذه الطريقة. يمكن أن تعمل فيما لا تحب، لتتجنب الغرق في هاويتك، أو الانجذاب القهري لثقب نفسك الأسود. بعدها، بطريقة ما بالمهارات الجديدة التي تتعلمها في الطريق، تصبح قادرًا على فعل ما تحب، وتجد ما يتعبك فيه أيسر، بعد أن تعلمت الصبر والجلد من الانتظام في فعل ما لا تحب برغبتك لفترة.

 

***

 

وعطفًا على أبيات علي بن أبي طالب في أول حديثي هنا بأنه لا حاجة لي لاستعارة الحكمة من خارجي،  ففي نفسي كل حكمة، أراها إن تأملت فيها- رأيتُ رأي العين ما يفعله التكرار والمواظبة في زيادة التحمل.


 

وليس الجسد فقط ما يحتاج للرياضة، ولكن النفس والروح، وكل جزء فيك تريد أن تحمله على فعل شيء أو ترك شيء.


*** 

أُصبّرُ نفسي بالشعر وأحاديث الحكمة على ما لا أطيق من نفسي، ومن شرور العالم.

كل الفظائع معروضة كأنه سوق يزايد كل قادر على من يقدر عليه. وكلما مر عام، وخضت التجارب، عرفت مكاني في هذا العالم، أو ظننتُ أني عرفته. فيظهر أن ما يمكن أن أفعله أقل مقابل ما يجب أن أتقبله، أو أهادن فيه.

 

 

أو ربما هذا حديث الخوف.

نخاف من المجهول ونحن صغار: من أن تتركنا الحياة إن تركتنا أمهاتنا، ثم إن تركنا آباؤنا، ثم إن تركنا مجتمعنا القريب. 

 

ثم نخاف من المعلوم ونحن نكبر: فأمهاتنا أو آباؤنا أو مجتمعنا القريب قد تركونا في مواقف متعددة، أو تركونا تماما زمانًا أو مكانًا، فأنشأنا لأنفسنا نظام دفاع لتجنب مزيد من الألم والنبذ. 

 

الخوف حمولة، والحركة تَثْقُلُ كلما ثقلت الحمولة، حتى تتوقف تمامًا في مرحلة ما إن لم تتخفف.

وجهادنا المستمر أن نتوقف لنفتش ونجرد حمولتنا، ونتخفف لنواصل المسير.

ليست هناك تعليقات: