يوجد نوعان من المعتقدات الخرافية: النوع الأول هو محاولة العلم أن يفسّر الحياة الجوانية للإنسان، والثاني محاولة الدين أن يشرح لنا الظواهر الطبيعية.
عندما يحاول العلم تفسير عالَم النفس،فإنه يحلله إلى مدرك حسي، أي إلى شئ. وعندما يحاول الدين تفسير الطبيعة يشخصّها،أي يحولها إلى "لاطبيعة". وهكذا نواجه مفهومًا خاطئًا من كلا الجانبين.
في حديثي عن الحرية،تحدثت عن وجود أشكال مختلفة لها، نتيجة اختلاف جوهر الفكر الذي يتبعهُ الفرد ويعتقد فيه.
يوجد فارق واضح ومهم بين الأفكار والواقع ،أي بين المنهج وبين من يلتزم بالمنهج ،بين الدين والتدين،ولذا كفكرة أساسية هنا لا تحكم على الفكرة من شخص أو أشخاص يدعون بأنهم يطبقون الفكرة،ولا تقتطع من سلوكياتهم لتبرر خطأ معتقدهم أو فكرتهم ،أو صحة معتقدك أو فكرتك.أنا هنا أتحدث عن الفكرة،كمحاولة لفهم السلوك، ولأنها أساس السلوك .
الحرية تبعًا للمفهوم المادي مبنية على أساس علمي (أي إسقاط ماتوصلت إليه العلوم الطبيعية على الإنسان ،ومحاولة تفسير سلوكياته ودوافعه طبقًا لهذا).وهي مبنية أيضًا على أساس منطقي،وعلى مفهوم المصلحة القائمة على ثنائية اللذة والألم..وتبعًا لذلك سُيسمى كل مايسبب اللذة (خيرًا أو فضيلة)،وكل مايسبب الألم (شرًا أو رذيلة)،بذلك سيكون الإنسان السليم هو الذي لن يقوم بنشاط إلا فيما يزيد من لذته واستمتاعه أو يقلل من ألمه ،عدا ذلك فهو يسير عكس طبيعته ،هذه النظرة كما يقول (بيجوفتش) تجعل من الأخلاق مجرد أنانية مهذبة،ومصلحة فرد مفهومة ومُقدّرة ،إنما يتدخل العقل ليحول تلك الرغبة في اللذة إلى مطلب أخلاقي.
بينما الحرية تبعًا للمفهوم الديني مبنية على أساس ميتافيزيقي(وجود الله وتبعات الإيمان بذلك)،أخلاقي،يُعنَى بالتحكم في رغبات الجسد والنفس ،والعمل على تغذية الروح .-بهذا يكون حتى مفهوم الرُقي مختلف في تطبيقه في المنهجين-
والأخلاق في جوهرها تقييد وتحريم يقابل الغريزة الحيوانية في الإنسان.
الأخلاق كمبدأ لا يمكن وجودها بغير دين،أما الأخلاق كممارسة ،أو حالة معينة من السلوك فإنها لاتعتمد مباشرة على التدين ،والحجة التي تربط بينهما معًا هو العالم الآخر،العالم الأسمى.
فلأنه عالم آخر،فهو عالم "ديني"،ولأنه أسمى فهو عالم "أخلاقي"..ومن هنا يتجلى استناد كل من الدين والأخلاق أحدهما عن الآخر،كما يتجلى استقلال كل منهما عن الآخر.(..) ،فالأخلاق دين تحول إلى قواعد للسلوك،يعني تحول إلى مواقف إنسانية تجاه الآخرين،ووفقًا لحقيقة الوجود الإلهي (والحياة الآخرة) ،لا وفقًا لوجودنا في هذه الحياة وكونها هي الحياة الوحيدة الحقيقية ،وبالتالي سيكون السلوك يسير في اتجاه المصلحة الفردية الأنانية في المقام الأول.
الفكر الديني أو المبني على الأخلاق ،إذن لا يخضع لمعايير المنفعة " فقد يكون السلوك الأخلاقي أحيانًا مفيدًا،ولكن ليس معنى هذا أن شيئًا قد أصبح أخلاقيًا لأنه أثبت فائدته في فترة من فترات الخبرة الإنسانية .على العكس فهذه الخبرة نادرة الحدوث. إن الاعتقاد المتفائل بوجود اتساق بين المنفعة من ناحية،وبين الصدق والأمانة من ناحية أخرى أثبت أنه اعتقاد ساذج بل وضار.فله أثر مدمر على الناس لأنهم يشاهدون عكس ذلك على الدوام ،لكن الإنسان المستقيم بحق هو الإنسان الذي يقدم على التضحية وإذا واجه الإغراء ثبت على إخلاصه للمبادئ لا لمصلحته."
الحرية هنا تعبر عن نفسها في النية والإرادة ،فكل إنسان يتوق للاتساق بأفعاله مع ضميره،ضمن قواعد أخلاقية معينة،وحتى لو لم نكن جميعًا قادرين على دفع الظلم مثلاً،فأغلبنا أو كلنا يتفق على استهجانه واستنكاره.
وكأن هذا يؤكد الفارق بين وجود العالم الداخلي أو الجوّاني أو البراني،وكلاهما حقيقي وموجود (ملموس ومحسوس) بالنسبة للإنسان - بغض النظر عن محاولات تنظير هذه الإحساسات لمحاولة تفسيرها-.
--
الحرية في أساسها قائمُ على الاختيار،لذا فمفهوم الحرية لاينفك أبدًا عن مفهوم الأخلاق،حتى مع التحورات في مفهوم الحرية ،فإن أهميتها في علم الأخلاق ثابت كما أهمية المكان والأبعاد والكم في المادة (المنهج المادي).
ولأن العقل يدور في مكانه،لذا فهو لايكتشف في الطبيعة (حوله) إلا ذاته،أو بمعنى آخر يكتشف نفسه في كل شئ.
التحليل (المنطقي) للأخلاق يختزلها إلى طبيعة وأنانية وتضخيم للذات ،بالضبط كما يختزل العلم النفس لشئ.
وبهذا الآلية في التفكير،سيكتشف العقل أن الإنسان خاضع للغرائز (ثنائية الألم واللذة)-التي باتباعها الأعمى يثبت عدم حريته-،وبنفس الآلية التي تعزز الدوران في فلك ضيق،ستُختزل الروح إلى مجرد نفس،والفن إلى عمل وتكنيك..
أي أنه لايمكن تفسير الأخلاق بأنها نتاج العقل ،فالعقل يستطيع أن يختبر العلاقات بين الأشياء ويحددها،لكنه لا يستطيع أن يصدر حكمًا قيميًّا (أي يقيّـم الأشياء) عندما تكون القضية قضية استحسان أو استهجان أخلاقي.فمن المستحيل علميًا محاولة إثبات أن شيئًا ليس خيّرًا بالمعنى الأخلاقي للكلمة،مثلما أنه من المستحيل التفرقة الدقيقة بين الفن والكيتش (الأعمال الهابطة المنسوبة للفن)،أو بين الجميل والقبيح.
الطبيعة والعقل لايمكنهما التفرقة بين الصواب والخطأ. ومايقبله القلب،لايستطيع العلم أن يفسره ويبرهن عليه.وشعورنا الداخلي المؤكد بالحرية لا نستطيع برهنته،لأن الأحكام الخُلقية كما السلوكيات المبنية على أفكار أخلاقية لا تأتي عن طريق العقل،وإنما هي أحكام داخلية مباشرة.
لذا ففي رأيي،اعتبار أن الحجاب أو النقاب هو تصرف يختزل المرأة لكائن جنسي مثلاً،أو أنها تفعل ماتفعل لكونها ترى نفسها مُنتقَصة،أو أدنى في المرتبة،أو تخجل من جسدها..هو حكم ناقص سطحي غير سليم،فكما لاينبغي إهمال الأسباب المنطقية والعلمية،كذلك لاينبغي إهمال الأسباب الأخلاقية أو الدينية.
وبالتالي من العبث تفسير التصرفات الناتجة عن اقتناع ديني،أو السلوكيات الناتجة عن محاولة لتطبيق منهجية معينة بأنها ضد الإنسانية..
ومحاولة تفسير الحرية،بشكل معين تكون فيه المرأة مثلاً مساوية في المظهر الخارجي للرجل –أو العكس-،إنما هو تفسير ضيق جدًا.
هذا في أصل فكرة الحرية،أما في الكلام عن حقوقها المادية ،ومهامها في الأسرة والمجتمع فهذا كلام له امتدادات أخرى لايسعنا مناقشته الآن.
استعنتُ لترتيب أفكاري،واختصارها كثيرًا بإيراد جمل من كتاب بيجوفتش (الإسلام بين الشرق والغرب)،اقتبستها بشئ من التصرف،مع خلطها بتعبيراتي وبرأيي.
-----------
تنويه :استعنتُ لترتيب أفكاري،واختصارها كثيرًا بإيراد جمل من كتاب بيجوفتش (الإسلام بين الشرق والغرب)،اقتبستها بشئ من التصرف،مع خلطها بتعبيراتي وبرأيي.
هناك تعليقان (2):
ولكن يجب أن تفرّقي في حديثك بين المجتمعات/الأسر التي تجبر شعوبها/أفرادها إجباراً على اعتناق الدين والأخلاق، وبين الأشخاص الذين يختارونه عن اقتناع تام وبكامل حريتهم الشخصية.
إنني أعتقد أن وجود مثل هذه النماذج هو سبب ربط الدين بالقمع! رغم أننا لو عدنا إلى الزمن القديم لقد كان تغيير ديانة المرء نوعاً من الثورة والمخاطرة ولا يحدث هذا إلا عن اقتناع تام وحرية مرغوبة.
إنني أتمنى أن تتفرغي يوماً لتحدثينا عن دورها في الأسرة والمجتمع.
إن كلامك ذو حجّة وبرهان وأنا أحبّ جداً أن أقرأه.
كلامك صحيح يانوران..
متابعتك تشرفني وتسعدني،ويومًا بإذن الله سأتفرغ للحديث الذي اقترحتيه،لأنه موضوع يهمني أيضًا.
-
شكرًا لك يامنورة :)
إرسال تعليق