الثلاثاء، مايو 18، 2010

كائن لا تُحتمل خفته -2

(1)
أوديب
______
 *"البراءة هي شئ تحافظ عليه،لا شئ يموت بمجرد خدشه"
**لكل شئ فوائد ،حتى اللامبالاة..لأن اللامبالاة يمكن أن تكون تخففًا من العاطفة تجاه الأشياء.
 Albert Greiner as Oedipus in 1896.
يقول كونديرا : "الأنظمة المجرمة لم ينشئها أناسٌ مجرمون،وإنما أناس متحمسون ومقتنعون بأنهم وجدوا الطريق الوحيد الذي يؤدي إلى الجنة.فأخذوا يدافعون ببسالة عن هذا الطريق ،ومن أجل هذا قاموا بإعدام الكثيرين .ثم فيما بعد أصبح جليًا وواضحًا أكثر من نور النهار،أن الجنة ليست موجودة وأن المتحمسين كانوا مجرد سفاحين."
وحين يجيئ دور المحاكمة،يصيح المتهمون : لم نكن عارفين ! لقد خُدعنا!..كنا مؤمنين بالقضية..إننا أبرياء في قرارة نفوسنا.

الجدال هنا متمحور إذن حول السؤال : (هل كان صحيحًا أنهم لم يكونوا عارفين؟ أم أنهم كانوا يتظاهرون بأنهم غير عارفين؟)،فلو افترضنا أن أغلب المنفذين والقائمين على الأنظمة المجرمة ،لم يكونوا مطّلعين فعلاً على مجريات الأمور فهنا يكون السؤال : هل هم أبرياء لأنهم غير عارفين؟ أيكون الغبي الجالس على العرش منزّه عن كل مسئولية ،فقط لأنه غبي؟"

وجد توماس بطل كونديرا الإجابة في حكاية أوديب ،الذي لم يكن عارفًا أنه يضاجع أمه ،ومع ذلك لما عرف ،لم يجد نفسه بريئًا .ولم يستطع تحمل مشهد الشقاء الذي سببه جهله،ففقأ عينيه،وغادر "طيبة".
---
- ما الذي يمكن أن يجعل الحكم على هؤلاء المتحمسين حكمًا عادلاً من قبل توماس؟
- ألا يوجد قواعد معينة تحدّ المتحمسين لفكرة ما،من أن يرتكبوا جرائم تمس إنسانيتهم التي يحاولون الرقيّ بها بفكرتهم الساعين لتطبيقها؟
- أيجب عليهم جميعًا فقأ عيونهم ومغادرة "طيبة" الخاصة بهم..؟

= أظن،أن الأديان والمذاهب الفكرية تتفق نظريًا في وجود قواعد تحكم صراعها لإثبات ذاتها ،ونشر فكرها على المستوى العملي الواقي.
رقيّ وبقاء كل فكر،مرهون بالحدود الصارمة للحفاظ على الإنسانية أثناء الصراع.إنسانية الفرد،وتحكمه بالجزء الهمجي فيه الذي يُنتِج (الأفعال الإجرامية) والتفنن فيها..هذا الجزء الذي لو لم يتم التحكم فيه ،لانحرف الفكر أو النظرية الإنسانية عن هدفها وغائيتها.

ليس علاج ذلك،في التسليم بأن البشرية نجس،يفتقر للبراءة،ويستحيل عليه منطقيًا السمو..لأنه لو سلّمنا بذلك ماكان هناك داعٍ للعذابات الروحية والأمراض النفسية التي يُصاب بها الأغلب من البشر مع مثل هذا الوضع الذي يحاول أن يدعي أنه يعيش في (الحقيقة).
يندر وجود المطموس على قلوبهم ،الميتة أرواحهم الذين يمارسون أفعالهم الحيوية بمعزل عن التفكير في جدوى ما يفعلون،أو حتى في إحاطة روحهم وأنفسهم في حوصلات متكلسة ،لايظهر منها شئ،بينما يمارسون حقيقتهم ببرود وانفصال تام ظاهره قسوة تقشعر لها النفوس الحية،وباطنه خواء لامتناهي.
---
(2)
"ليس من ذلك بُـدّ"
_____________
*" ما من إنسان متفوق، ولا أحد منا يستطيع أن يفلت نهائيا من قبضة الكيتش"
Vladimir Tretchikoff - Chinese Girl
حينما يموت الإله ،أو يُنحى،يتم بتر جزء حي جدًا مما وراء عقل الإنسان،ومن روحه،ونفسه.
ولأن اللغة خداعة ،فإنها قد تغويك بالتصديق،بأنك إذا أردت أن تعيش ماوراء المرئي..إذا أردت أن تعيش اللامنتهي فيك ،وفيما وراء فناءك المحكوم بمحدودية جسدك..فما عليك سوى أن تغمض عينيك  لتعيش اللامنتهى !..

هذا التقديس للحقيقة الآتية فقط من خلاصة مايتم استقباله بالحواس،ومايمكن البرهنة عليه ماديًا فقط،هو خنق للوعي وللإحساس بالحياة ذاته،في زاوية واحدة للنظر كسجين يرى الحياة فقط من نافذة واحدة.

لذا من السهل فهم مصطلح (الكيتش) الذي تحدث عنه كونديرا خلال فصل كامل من الرواية (المسيرة الكبرى)،سخر فيه لأقصى حد من كل الصور الجمالية المثالية التي تستبعد (البراز) من الصورة الإنسانية المتكاملة.
بغض النظر عن استفاضة كونديرا في تحليل مشاعر احدى البطلات التي تخص موضوع الإخراج هذا، وخلاله.مما يوحي بأن الكاتب إما أنه يريد أن يعيش (الحقيقة) بطريقته، أو أنه يستخدم السخرية ،لتدفعك قسوتها دفعًا للتفكير بشكل مختلف .
لذا فقد حاولت فهم مراده من كل هذا الشرح لمفهوم الكيتش.

بدأ هذا الفصل،بحكاية أسر ابن (ستالين) في أحد السجون الألمانية،والتي كانت حماماتها متسخة بإخراجات العسكر،ولقد اتهم الضباط ابن ستالين وحده بتلويث المكان،وأمروه بإزالة الأوساخ.ولأنه كان يعتبر نفسه ابن الإله الآمر الناهي (ستالين)،فقد أبت عليه نفسه الوضع،وطلب الضابط الألماني الكبير ليناقشه في المسألة،والذي بدوره أبت عليه كبرياؤه الألمانية أن يناقش موضوعًا كهذا.فألقى ابن ستالين بنفسه وسط الأسلاك الشائكة المكهربة ليموت في الحال بسبب قضية (البراز) هذا،لأنه يعتبر أن حياته مرهونة بما يليق بحياة إله صغير،لا مجرد تفاهة ..الخ الخ

التقديم كان جيدًا للفكرة،ووصف القسر على تمثيل مظهر الأسرة السعيدة أمام كاميرات المراقبة،في أيام الشيوعية كان كافيًا تمامًا لأن تحتقر الفكرة ومفهومها وكل ما يحاول التشبه بها.
دلل على ذلك مثلاً،ببراءة الأفلام في الفترة الشيوعية،بينما الواقع غاية في الاتساخ وعدم البراءة..والمقصود ببراءة الأفلام هنا،براءة دوافع الصراع بين الأبطال،لكأنما الشر منمحي من الطبيعة البشرية،بينما هو جليّ وواضح في القهر المُمارس على الناس.

وبالتالي حَقَّ للفظة Kitsch أن تكون منفرة ،وترادف معنى (الفن الردئ) المُقدّم قسرًا ليكون صورة إجبارية مطروحة للجمال والبراءة الإنسانية المُتَخيلَة..بدلاً من أن تكون تعبيرًا عن جمال وبراءة (أو أي معانٍ جميلة) حقيقية صادرة من الإنسان المبدع ذاته.

لكن كونديرا ،عمم الفكرة للحد الذي اعتبر أن لكلٍّ (كيتشه)،ولكل مذهب ودين وعقيدة (كيتش) خاص بها.أي صورة زائقة جميلة تُضاد الواقع العملي للشخص أو للفكرة المُطَبَقَة.
كأن الحد الفاصل بين (المثالية) و(الزيف) انمحى هنا،وأصبحت كل مثالية في الفكرة تعني الزيف والابتذال..لكنها مما "ليس منه بُدّ" ،حيث أن الكيتش هو محطة اتصال بين الكائن و(الإنسان) فيه.ومصدر "الكيتش" هو الوفاق التام مع الكائن. ومصدر الكائن (أو كينونة كل واحد منا) يختلف حسب اختلاف المفهوم الذي تقدمه لك عقيدتك كإجابة السؤال (من أين أتيت؟).

بالتالي مايحرك الجموع ومايحركك ليس مواقف عقلانية ،بل تشخيصات أو صور أو كلمات تشكل في مجمعها (الكيتش) السياسي.
أي أنه يمكن القول ،أن جمالية الفكرة والنجاح في تسويقها لدرجة أن تعدو حلمًا،هو أهم من الفكرة ذاتها -في رأي المؤلف- الذي يقول :
"إن مايجعل اليساري يساريًا،ليس هذه النظرية أو تلك ،بل مقدرته على إدخال أية نظرية كانت إلى (الكيتش) الذي يُسمى (المسيرة الكبرى)." -أو الحلم الأكبر لكل نظرية،أو الصورة المثلى لما سيكون عليه المجتمع عند تطبيق هذه الفكرة- ،وهذا صالح أيضًا إذا أردنا التحدث على مستوى الفرد.

ماقاله وفصّل فيه كونديرا هنا،ساعدني في فهم الكثير،لكن لا يعني هذا تسليمي له بالكامل..فأنا أراعي الاختلاف الجذري في منبع فكرته وفكرتي -مع الاحترام لموهبته التحليلية والتقدير لرحلته وفقط-.
____________
هامش :
* "Innocence isn't lost. It's taken".
the tagline of Cracks
هذا الاقتباس هو ماكان بذهني أثناء كتابة جملة البراءة.
يتبع

ليست هناك تعليقات: