الأربعاء، مايو 19، 2010

كائن لا تُحتمل خفته -3

(1)
أريدكَ أن تراقبني
___________
يقولُ كونديرا : نحتاج جميعًا إلى من يراقبنا ،ويمكن تصنيفنا إلى أربع فئات حسب النظرة التي نرغب في العيش في ظلها .
الفئة الأولى تفتش عن عيون الجماهير (مثل الصحفي الذي حظر الروس مجلته،فشعر بالاختناق إلى أن عَـلِمَ ملاحقة ومراقبة الشرطة له،وتصنتها على مكالماته،وتصويرها له ..حينها مستعيدًا أنفاسه،أخذ يخاطب آلات التسجيل داخل الجدران بلهجة مُفخّمة ،كأنه يجد في البوليس جمهوره المفقود !).

الفئة الثانية،تتضمن هؤلاء الذين ليس في إمكانهم أن يعيشوا دون نظرات كثيرة مألوفة.هؤلاء الذين لايتعبون من إقامة الحفلات ومآدب العشاء..أو من لقاء الناس في التجمعات. وهم أسعد من الفئة الأولى من حيث أنه بإمكانهم العثور على نظرات مُسلطة عليهم من المحبين.

الفئة الثالثة،هؤلاء الذين يحتاجون العيش في ظل عيون أحبائهم ،وبالتالي هم في خطر كما الفئة الأولى ،لأنه بالفراق أو غياب الحبيب تغرق نفوسهم في ظلام دامس.

الفئة الرابعة (النادرة)،تتضمن أولئك الذين يعيشون في كنف أنظار موهومة لكائنات غائبة.
هم الحالمون. الذين يصطحبون معهم شخصًا خياليًا (حتى لو كان له وجود في الواقع،لكنه وجوده الخيالي مستمر وقوي ومُـلّح )،يشعرون بعينه مراقبةً لهم دومًا .كلُّ مايريدون من هذا الشخص،هو أن يُلقي نظرة على عالمهم .
---
كلامه عميق،وملحوظته جديرة بالانتباه.
من المؤكد أن تفاعلي مع هذا الكلام له أبعاد مختلفة،فما توقعك لتفاعل شابة  مسلمة ،مصرية  لكلام كاتب تشيكي،يساري،ملحد ؟
لكل صفة مما وصفت قبلاً ثقل،وخفة،وعدد لا متناهي من الانعكاسات لدى كل قارئ على حدة..فلديّ أنا مثلاً لاتنفك صفة المصرية عن العربية..لكن هناك كثير ممن يعارضونني..
ولديَّ لا تعني كلمة ملحد ،سوى أنه شخص لا يؤمن بوجود إله لعدد من الاحتمالات أحتفظ بها في رأسي،بينما قد ترتبط الكلمة (ملحد) لدى آخرين بالانحلال، أو الثقافة، أو العقلانية الجافة، أو الجرأة ..الخ الخ.

لذا من الطبيعي أن أضيف بُعد (وجود الله،ومراقبته) وكل ما أعرفه وماهو مُخزّن في ذاكرتي ونفسي عن ذلك،وعن (الأخ الأكبر) لـ أورويل  ،وعن تلفزيون الواقع مثلاً..وكيف يمكن أن يتفاعل الناس مع الكاميرا..الخ الخ.كل هذا لايأخذ أبدًا وقت احصاؤه أو محاولة شرحة،وإنما يحدث بديهيًا أثناء التفكير كما تعلم.
وأفكر..هل الفكرة الأساسية في العقيدة الإسلامية في وجوب مراقبة الله،لها أثر في مثل ما وضحه كونديرا كجزء من الطبيعة البشرية.
المراقبة لا تأتي من جانب واحد ،وهو جانب (المُراقِب). لأن المُراقَب إما أن يكون عالمًا أو جاهلاً بأنه تحت الرقابة..وفي حالة علمه فإنه يتحول لمراقب للمراقِب (ليتأكد من كونه يراقبه،أو ليتملص من رقابته،أو حتى ليتحدث معه حين الشعور المضني بالوحدة)،إضافة لكونه مراقب لنفسه من زاويتين: الحالة العادية الروتينية ،التي تسمح بتتبع احتياجاته وأهواءه،والحالة التي هو فيها تحت (عين ناظرة) ما (وبالتالي لا مانع من محاولات للتوافق مع العين الناظرة ،بمعنى أن يحاول أن يكون كما تحب العين المُراقِـبة،أو أن يكون خلاف ما يُرضي العين المراقِبة كنوع من التمرد،أو حتى التظاهر بما يحقق للإنسان العالم بأنه مُشاهد من قبل (أيّ آخر)  نوع معين من الانسجام أو التوافق أو حتى الصراع حسب كل شخص).

بالتالي،فمعنى الإحسان (أن تعبد الله كأنك تراه،فإن لم تكن تراه فإنه يراك)..أو (احفظ الله يحفظك،احفظ الله تجده تجاهك -إلى آخر الحديث-) بات مفهومًا أكثر لي من زاوية جديدة.فعليّ أن أتذكر (المراقِب)،ووالطريق الذي تؤكده العقيدة..هو أن فكرة (مراقبة الله) ستحافظ على مستوى معين من الرقي في إنسانيتي،إذا كنت متشبعة وفاهمة للقواعد التي تدعو إليها هذه العقيدة (التي أؤمن أنها إنسانية جدًا)..أو بكلام أكثر حيادًا : ستحافظ المراقبة هذه على مستوى معين من السلوكيات التي تجعل مني شخصًا يتصرف حسب مايؤمن به.

إذن التحذير الشديد من الرياء،والنفاق،له وجاهة هنا..لأن المرائي أو المنافق،لايستوعب أو لايتمثل فكرة المُراقب (غير المرئي) جيدًا-ولو للحظة تظاهره- ..بقدر استيعابه لفكرة الجمهور المراقب -مثلاً- .
والتحذير الشديد من الغَيبة (ذكر مساوئ الناس،أو صفاتهم السيئة الفعلية) ،والتجسس، له وجاهته ..لأن المُكلّف أنتَ بمراقبته هو (نفسك) أولاً..لتوافق الصورة المُثلى لما يبتغيه مراقبك الدائم (الله).

حتى فكرة الضمير،فكرة تتعلق بالمراقبة..وتتعلق بمستوى معين (قياسي) يتعلق بكونك إنسانًا صالحًا .
لو كان هذا مايريد كونديرا قوله في عبارته (لا يستطيع أحد الإفلات من قبضة الكيتش) ،فمن السهل والمفهوم أن تعتبر هذا نوع من الغرور،أو الصلف..أو لعب كرة الطاولة بقواعد لعبة الشطرنج.
---

(2)
شرٌّ لا بُـدَّ منه
_________
! Muss es sein? Es muss sein
مقطوعة بيتهوفن "ليس منه بد" التي ذكرها كونديرا كثيرًا في روايته
-----

أفرد كونديرا فصلاً كاملاً عن (الروح والجسد)،سار فيه مع فكرة انفصال الجنس عن الحب إلى نهايتها . وفي كل الأحوال كانت محاولة مخلصة لعوب انتهت به إلى القول " إن ربط الحب بالجنس أحد الغرائب التي ابتدعها الخالق..".

الكاتب أو البطل يتحدث بلسانٍ ملحد،لكنه يأخذ فكرة الإيمان بما وراء الماديات كاحتمال "لابد منه" لتفسير بعض الظواهر.
في فصله وتحليله لعلاقة الروح بالجسد ،أوحى لي بنتيجة مفادها أن الجسد أحد نوافذ الروح،أو نافذتها الرئيسية ،والاعتناء به أو تكريمه هو نوع من الاعتناء بالروح،وكذلك اللامبالاة به لاشك يُصيب الروح ،فيفقدها شفافيتها من ناحية ،ومن ناحية أخرى نفقد تحكمنا في التوائم والانسجام معها..

هذا الانفصال (بين الجسد والروح) هو عمق الألم النفسي المستمر لدى البطلة مثلاً ،والذي يجعلها تفكر في أن (الإنسان طفيلي البقرة ) مثلاً أو أن حب الإنسان لكلب أفضل من حبه لإنسان آخر ،وحينها يصبح الحب الذي نشعر به ،ولانستطيع الفكاك منه هو نوع مما "ليس منه بد" ،ولايسع النفس سوى الاعتراف بذلك ومواصلة السير بجسد متخفف من القيد وروح مثقلة.

هناك 4 تعليقات:

77Math. يقول...

أنا لازم أقرأ الرواية دي !

هذا ما انتهيتُ إليه بعد قراءة تحليلك..

شكرًا كثيرًا لكِ :)

Mist يقول...

:) -المجلة غير مسئولة عن أفكار كتابها .-

عندما تقرأيها،أخبريني رأيك.

ومرحبًا بكِ في كل وقت ،عزيزتي.

غير معرف يقول...

Mist
شكرا جزيلا لك على هذا الموضوع الممتع حقا.
وأنا اقرأ الكلام هنا تخيلت نفسي من الفئة الثالثة.
وعلى فكرة لم أكن أتصوّر أن كونديرا من العذريين. فصله الحب عن الجنس يبدو غريبا على شخص مثله.
"الجسد احد نوافذ الروح". كلام رائع ولا يقلّ عنه روعة حديث الروائي عن التناغم والشفافية بين الاثنين.
تحيّاتي ومودّتي لك. وشكرا لك على جمال الاختيار.
بروميثيوس

Green يقول...

على فكرة انا بدأت الرواية فعلاً ...
بعد الكلام ده ؛ كان لازم اقراها ^_^
سمعت كمان ان فيه فيلم عن الرواية