مر على حديثي في هذه المدونة عن "الهوية"، و"السفر" عشر سنوات.
لا أستطيع التحديد إن كانت بعيدة أو قريبة. فعندما قرأتُ ما كتبته عن ذلك وجدتُ أنه مع تغير الأفكار الطبيعي الذي مررتُ به، إلا أن صُلب فكرة ما يسمى بالهوية تقريبا واحد. ربما فقط لم يعد له عندي أي إحساس ملح بأهمية الهوية، وقدسية الوطن وما إلى ذلك. ولم يعد سؤالا أكتب لأنظم أفكاري حولي.
أما عن السفر، فلقد عدتُ من حيث أتيت. وأنا مرتاحة في انتقالي.
عندما كتبت تدوينتي تلك، كنتُ مملؤة بذكريات عشر سنوات تقريبا قضيتها في مصر بعد عودتي من مكان نشأتي في السعودية. كنت قد مللت من التصورات حول العائدين من الخليج. هي تصورات لأناس أغنياء ماديا، ومحدودي التفكير، وتربوا في الصحراء وسط الوهابيين ومحدودي التفكير.
لقد نشأتُ في جدة. ومن عاش فيها يعلم جيدا أنها قريبة من القاهرة مثلا، لكنها منظمة أكثر، ومحافظة اجتماعيا أكثر.
لقد كنتُ أذهب للمدرسة القريبة من المنزل مشيا مع صديقات سعوديات يسبقنني بشارعين. ولم أكن أغطي وجهي هناك، وكان هذا عاديا -أذكر أن جارةً مصرية وأخرى هندية كانتا لا يرتديان الحجاب-، كان المطلوب فقط ان تلبس النساء عباءة سوداء كان أغلب الأجانب يربطن طرفين منها أعلى البطن، أو يتركنها مسدلة ويظهر ما تحتها من ملابس.
الحياة كانت منتظمة، وكل شيء يبدو له قواعد معروفة ومحددة. أجازة آخر الأسبوع يومان، الخميس غالبا ما نسافر مكة أو نزور أصدقاءنا، والجمعة غالبا ما نذهب للبحر في الصباح لنلعب، ونسبح، ثم نشتري الإفطار.
في الصيف، كنا نشترك في مدرسة صيفية، نحفظ فيها القرآن، ونتعلم أنشطة يدوية، وفي ختام الموسم الصيفي، نكون تدربنا على حفل آخر الدورة الصيفية. أذكر جيدا أني تدربت على المسرح في تلك المدرسة، وكانت خياطة متخصصة تأتي للمدرسة لتأخذ مقاسات المشاركات في العروض المُقامة. ما أذكره هما دور معلمة، وأني كنت ضمن الكورس الذي يقدم أغنية ما، وتم استبدالي لأني فوتُّ عليّ الفستان (استايل ماري انطوانيت) لأني لم أحضر لتأخذ الخياطة مقاساتي.
عندما عدنا مصر، كان علي أن أذاكر لأدخل امتحانات قبول المدارس العامة والمدارس الأزهرية. كانت المعلومات المطلوب حشوها في رأسي كثيرة. أتذكر أن الدراسات الاجتماعية هي التي شكلت لي مشكلة، لأنها كانت تبدو كقصة تاريخية، حيث كان الكتاب يتحدث عن رحلة الإنسان في عصور ما قبل التاريخ، بينما في السعودية في الصفين الرابع والخامس لم أدرسها كمادة واحدة، وإنما كمادتين (التاريخ)، و(الجغرافيا)، وتعلمتُ فيهما مباديء وأدوات -مثل قراءة الخرائط ومقياس الرسم، الخ- أعانتني فيما بعد.
بخلاف الحشو، أذكر عندما تم نجاحي في اختبارات قبول المدارس الأزهرية أولا، كان أول احتكاك لي بتجليد الكراسات -أو الدفاتر كما تعودت أن أدعوها- بالألوان. والواجبات المدرسية الكثيرة جدا بشكل غير مفهوم، واللغة العربية المنطوقة دون تعطيش الجيم، أو إخراج اللسان في حروف الثاء والذال.
أيضا كان حظي في مدرسة مسائية مختلطة، ودون ما تعودتُ عليه من تفتيش دوري على نظافة الملابس، ودقة الالتزام بالزي المدرسي وألوانه، وعلى طول الأظافر، ونظافة الشعر.
أذكر جيدا أننا تعلمنا في حصة الرسم كيف نخيط أكماما لنلبسها فوق المريول المدرسي عندما نستخدم الألوان المائية، وتعلمنا خياطة مريول مطبخ في حصة التفصيل، لنرتديه في حصة التدبير. وحصة التدبير المنزلي كان لا يُسمَح فيها بالمشاركة في المطبخ لمن لا ترتدي المريلة والطاقية، كما لابد أن تكون أظافرها مقصوصة -هذا النظام واتباع القواعد الصحية المُتفق عليها كان من أكثر مما افتقدته في مصر-
ولي ذكريات رائعة في مدرستي المصرية، لكنها مليئة بالصراع النفسي، ومحاولات التكيف، والصدمات المتوالية، مما أكسبني قوة ومرونة ربما. لكن صداقاتي وعلاقتي بالناس والمعلمين هي أجمل ما تبقى منها.
أحببتُ العيش في مصر، فعلى المرء أن يحب ما يملك.
كنت واعية للمظالم التي تحدث فيها، كون جدي كان شيخا محسوبا على السلفية، وكوننا نتعرض لمضايقات في المطار لأن أبي ملتحي وأمي منتقبة -لا ينتميان لأي تنظيم أو مجموعة إن كنت تظن ذلك- . وأخذتُ انطباعا -تزايد وتأكد مع الوقت- أنه لا قواعد محددة معروفة للجميع فيما يصح ولا يصح مجتمعيا مثلا، تكاد كل مجموعة من الناس تتشارك مجموعة من القواعد العامة في الحياة لما يمكن أن يسموه (خطأ)، أو (صح)، أو(عيب).
لا يوجد كود مُجمع عليه اجتماعيا تقريبا. توجد قواعد عامة مرنة أو سائلة، يمكن لكل فرد في مجموعة أن يتبنى قواعد من خارج مجموعته.
حالة الانفتاح، والسيولة هذه كانت مربكة. فعلي اتخاذ قرارات طيلة الوقت، وتحمل مسئولية ما أتخذه مخالفًا لما تعودت عليه، أو لما يخالف قواعد المجتمع الذي أنا فيه.
أيضا التنوع والانفتاح في مصر، كان سببه انفتاح المشاركة في المجال العام، وبداية ثورة الانترنت. وانغماسي في المشاركة في المنتديات ثم المدونات وما إلى ذلك، فتح لي عوالم متسعة أكثر وأكثر. كان النت بالنسبة إلى مصدرا لأبواب التواصل، وللفرص المدهشة، وللتعلم بلا نهاية.
ثم الثورة، والأصدقاء هنا وفي كل مكان قامت فيه، ومابعدها، واكتئاب ما بعد الثورة العميق
إن كنتُ أرفض الخروج من مصر قبل الثورة وأثناءها، فأنا الآن في مرحلة (لا أعود إليها ما لم أُضطر). وأعتقد أنه لا داعي لشرح الأسباب لأنها مفهومة عموما اجتماعيا واقتصاديا ونفسيا -بشكل شخصي-.
كل ما كتبته يعتبر مقدمة لما أود قوله بعد ذلك. حيث أني كنتُ ولا زلت أستغرب من يتحدث باسم غيره، ويوصمه بثقة، ويحلل، ويستنتج، ويعتقد دون أن يمر بالتجربة أصلا.
فأنا كإنسان تربى في السعودية ثم عاد إليها، سأمتُ مثل هذه التصرفات، وتعدى مللي منها الحدود من جمل مثل (التخلف والانغلاق المجتمعي الذي تسببت فيه الأفكار الوهابية التي جاء بها الذين عادوا من الخليج)..الخ. فالذين ذهبوا إلى الخليج لابد أن لهم أسبابا، والذين تأثروا بتجربتهم هناك لابد أن يكون هذا مُبررًا، ولا داعي للإحساس بالفوقية عموما أو الفوقية الوطنية عليهم. وأعتقد أننا يجب أن نضع ما قدمه لنا الوطن (من خدمات ومعاملة) في مقابل ما نقدمه نحن كمواطنين كعنصر منطقي وطبيعي في معنى الوطن-إن أردنا الحديث عن هذا أصلا-. وربما كان الحديث عن هذا سيكون عاطفيا وسيتغير بتغيرات العاطفة -ظاهريا- على أية حال.
فأردت أن أضع وجهة نظري -كوني عشت التجربة- لأوسع بها النظر إلى تلك المنطقة، وسأحاول طرح وجهة نظر مخالفة لما أسمعه بشكل متكرر بإملال. وليكن في علمك:
فأردت أن أضع وجهة نظري -كوني عشت التجربة- لأوسع بها النظر إلى تلك المنطقة، وسأحاول طرح وجهة نظر مخالفة لما أسمعه بشكل متكرر بإملال. وليكن في علمك:
- لا تطاردنا شرطة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر طيلة الوقت.
- لا تجري وراءي سيارات الشباب المحروم -ياعيني- من النساء، إذا مشيت في الشارع.
- لا -للأسف- تحظى كل السيدات السعوديات بخادمات يجعلنهن لا يفعلن سوى الاهتمام بجمالهن.
- لا ليست الحياة جحيما هناك، وليست أسوأ من مصر قطعا -توجد أماكن للفسحة-
- لا لم يعودوا -وليسوا- مجرد (بدو) يملكون الكثير من المال.
- يوجد تقدم وتغير ملحوظ عما كانت عليه من عشر سنوات -اجتماعيا واقتصاديا-
سأحاول أن أكتب في تدوينتي القادمة -ربما عدد من التدوينات- عن ملاحظات حول التغيرات، وحول معيشتي هناك.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق