عزيزي نور
يقول العارفون بالأمور أن التقبل هو مفتاح المُضي قُدُمًا. وأحتار بالفعل ماذا يعني التقبل في مثل هذا الموقف؟
أأتقبل أني لم أبرح مكاني؟ وأن بابًا فُتِحَ على قلبي تدخل منه الريح القوية، وكلما اقتربت لأغلق الباب تدفعني الريح فأطير بعيدًا في فضاء لا قرار فيه؟
أأتقبل أن عقلي يعلم جيدًا ماذا ينبغي أن أفعل، بينما كلما حاولت التنفيذ كان الفعل صعبًا كأن المطلوب تحريك جبل. أتحرك ببطء شديد وسط هذا الماء، وأجمع بحرص أنفاسي القصيرة لأقطع حدودًا خيالية لمسافات قصيرة للغاية، كلما عبرتُ حدًا شجعتُ نفسي، هيا! يمكنك فعلها! تقدمي يا بطلة..تستطيعين.
وأعلم أني لستُ ببطلة يحتفل العالم بأول خطواتها في المشي بعد أن كانت تجوب الأماكن زحفًا.
كنتُ أطيرُ وأجوب العالم عدوًا أو أمشي فيه بخفة دون أن أحسب حسابًا للوقت، أو ألقي بالًا لما أفعل. الآن يمكنني أن أنظر للساعة من أول النهار لآخر الليل، ولا أقوى على النهوض. أعليّ أن أتقبل هذا؟
أكثر من شهر مضى وأن كل يوم أقول: هذا أيضًا سيمر. ويتحرك كل شيء حولي، ولا يمر. تتكدس اللحظات والحكايات، وأنا واقفة عند الباب الذي بيننا، لا أطرق أبدًا، ولا أقدربعدُ على ترك مكاني.
كل ليل أقول في الصباح سأبدأ من جديد، ويأتي الصباح وأظل أرقب الثواني حبات رمل تمر من مضيق الساعة الرملية بانتظام ورتابة حتى ينتهي اليوم، وتنقلب الساعة لتسقط نفس الحبات في الجهة الأخرى. وأنا أشاهد بصمت أغلب الوقت. صمت يبتلع كل الضحك وكل البكاء.
هل أتقبل أن خيالي يعزيني؟ أني أستند بجبهتي على جبهتك -يا أول السواح وآخر المقيمين، يا البعيد الحميم، يا الناسك- أوأقولُ لا بأس، سيكون كل شيء على ما يرام؟
هل نحتاج بالفعل حديثًا نرشف منه النسيان؟ أم عليّ أن أجرع من التذكر حتى أثمل، ثم يأتيني النسيان؟
ماذا أتذكر؟ وماذا أنسى؟ هل لي يد في هذا حقًا؟
هل النسيان فعلًا ما نحتاجه أم الذكرى؟ أخافُ أن أنسى فألتفت ثانيةً، أو لا أعرف ما تبقى مني بعد الآن، ولا أصل. وأخاف أن أتذكر أطول من هذا فأظل بلا حراك منسحبة من العالم للداخل أبحث فيه عني وعن معنى لوجودي في هذه الحياة من الأصل.
هل أتقبل هذا الخوف؟
هل أتقبل التيه؟ هل أتقبل احتياجاتي الإنسانية السخيفة؟ هل أتقبل كل مشاعري المختلطة والمتناقضة التي تعيش جنبًا لجنب؟
أنظر لآثار الماضي، وما سجلته قبلًا، وأتعجب: أهذه أنا فعلًا؟ هل كتبتُ هذا؟ هل أنا الجميلة كما في الصور، أم الغريبة التي لا أرى وجهها داخلي؟ هل هذا جسدي حقًا؟ هل أنا في بيتي؟ هل هذه أسرتي؟ أجد ملاحظاتي المتناثرة، وأفلام وأغانٍ لا حصر لها، كأنها لشخص آخر، أتذكره لِمَامًا، وأتذكره كطيف.
أنا غريبة عما كنت، وأعرفني بالكاد الآن، لكني أهدأ وأتقبل وأرضى في لحظاتٍ فيها أستند بجبهتي على جبهتك، وكفاي مستندتان على جانبي وجهك، لا بأس، كل شيء سيكون على ما يرام.
هل أتقبل حقيقة أن فعلي خالفَ قولي؟ وأني لم أكن مخلصةً لما اعتقدت به؟ هل أتقبل إيماني بشيء وفعلي نقيضه؟
هل أتقبل تشبثي بخيط أمل وسط غرقي في محيط العدم هذا؟
هل أتقبل أني أعلو وأهبط مع الموج المتلاطم للمحيط الذي أسافر فيه طويلًا، وأشعر بالذنب لتقصيري نحو البيت الذي بنيته على الشاطيء؟
أنا داخل المحيط وخارجه. أشعر أني تعلمت ورأيت الكثير، لكن خطواتي متعثرة، كلما وقفتُ وسرتُ خطوةً، تعثرت وسقطت مقدار خمسين خطوة. فهل فعلًا سأصل؟ أم أتقبل تعثري؟
هل أتقبل تقبلي المتعثر لنفسي، ولما أنا عليه؟ هل هذا هو الطريق؟
لكني أهدأ وأتقبل وأرضى في لحظاتٍ فيها أنا في فضاء شاسع، بعيدة عن كل أحد، وقريبة من الواحد الذي يملك قلوب كل أحد. وهناك أسمع: لا بأس! كتبتُ الرحمة على نفسي، فاطمئن. فأدور بوجهي في كل مكان في هذا الفضاء، فأراك وأراني وأرى كل أحد وأقول: لا بأس كتب الرحمة على نفسه، ويحبنا. كل شيء سيكون بخير، وأحبكم. فلنطمئن.
ثم يعقبها لحظات طويلة لا أرى فيها شيئًا ولا أسمع شيئًا، تتلاطمني الأمواج وأنا أراقب اللحظات تتساقط كل يوم، فهل أتقبل هذا؟
هل كل هذا التقبل هو الطريق يا نور؟
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق