الجمعة، نوفمبر 17، 2023

الصبر


تصرفاتك في الرخاء تختلف تمامًا عن تصرفاتك في الشدة. 

جسمك يتصرف وعقلك يفكر وحدسك يكون أكفأ ما يكون عندما تكون في وقت شدة، أو وضع طاريء، تريد أن تنجو منه حيًّا.

من اعتاد وضع الطواريء في حياته يرتبك عندما يعيش في وقت راحة أو رخاء، أو وضع مستقر. وربما يعيد خلق حالة الطواريء هذه بأكثر من طريقة لكي يستمر في الحياة البراقة أو ذات المشاعر الحادة تحت تأثير الأدرينالين الذي يفرزه الجسم في تلك الحالة.

ولا بديل في الحياة المستقرة من خلق روتين والالتزام به، لتدريب الجسم والعقل على الصبر، والنفَس الطويل، والوصول بهما لحالة توازن معينة فيها مساحة للتخطيط والعمل على مشاريع أو أحلام أبعد من الحياة (يوم بيومه).

***

 "بدها طولة نفس. خلي المعنويات عالية"

سلام ورحمة ونور لقائلتها (شيرين أبو عاقلة). أهم مبدأ صالح لهذه الفترة يحافظ على إنسانيتنا التي تعتاد كل شيء حتى البشاعة وسفك الدماء، وتتجنب الألم عموما وألم العجز خصوصًا.

مرّ اليوم ٤٠ يومًا على الحرب على غزة، وبدأ الشتاء بالمطر، أشاهد من ينشر من هناك من يحتفل بنعمة المطر، فيشرب ماء نظيفًا (على الأقل أنظف من المياه المتوفرة)، ومنهم من يستحم بها، وكلها محاولات وطرق للمحافظة على المعنويات عالية.  أدعو لكل من لا يجد دفئًا في تلك البقعة من الأرض، ولكل مكلوم لا صوت له، وكل من يقاتل على حق.

وأذكر نفسي، أنها معركة طويلة، والتضحيات جسيمة وضخمة. ما حدث هذه المرة هو أننا عاينا كل شيء بسيال الصور والفيديوهات. وفي النهاية كما شاهدنا ما حدث، سنشاهد ما يحدث. ومن الصعب جدًا مقاومة أن نأمل في حل قاطع. لأنه بطول الشعور بالعجز يزداد وطئةً ويشعرنا بالهوان. 

ما علينا فعله، هو فعل كل متاح مهما صَغُر في نظرنا، والصبر. (والصبر جهاد حقيقي في هذه الحياة، لأنه عكس طبيعتنا العجولة).

الصبر على عجزنا، وعلى تألمنا، وعلى تكرار البشاعة، وعلى الظلم. وأن نتذكر إن كنت نتعاطف ونشعر بقلوبنا تتكسر أمام من يحدث، فأصحاب الموقف الحاضرين فيه دون مسافة يعيشون ما لا يوصف، وما يفوق تحمل البشر، وما لن يكون أبدًا عاديًا وعابرًا.

***


أمس خرجتُ في تمشية للحديقة القريبة بقدر 10 دقائق عن سكني، صحبتُ جارة لي بولديها وولدي. كانت السماء كما تبدو في الصورة، وأخبرتها بشيء من التردد أن السحاب الرمادي يعني اقتراب المطر (اسمه رُكام على ما أذكر). وعلقنا على جمال المنظر، ولم نلقِ بالًا.

مرت ساعة، ثم فجأة غامت السماء أكثر، وعرفنا بأن عاصفة قادمة. لم أمر من قبل بعاصفة حقيقية، ومن ثمّ لم أصدق غير أنها مبالغة لوصف شيء من الرياح القوية التي ستصدها المباني في المدينة.
مشينا نصف المسافة عائدين، ثم شعرنا بزخات مطر خفيفة، ثم فجأة -بمعنى أقل من دقيقة- انفتحت السماء ونزل الماء غزيرًا حتى أن ابتللنا تمامًا من رأسنا حتى ما نرتديه في أقدامنا، وصرنا كأننا نمشي وسط ماء يغطي أقدامنا، وصار المطر الساقط علينا مؤلمًا لتساقط حبات الَبرَد تصحبه مندفعة بالريح القوية.
بلغ من قوة العاصفة أنها تدفع الأطفال المتشبثين بأيدينا في اتجاهها. فورًا دخلنا أول باب مفتوح. كانت غرفة حارس لإحدى الفلل أعتقد، وصار البيت الذي على بعد 3 دقائق أو أقل بعيد المنال غير ممكن الوصول إليه. صاحب البيت الذي فتح لنا الباب أوصلنا بسيارته هذه المسافة الصغيرة وسط البحيرة التي غطت شارع مسكننا في دقائق معدودة.

موقف عابر حقيقي جعلني أنتبه وألاحظ وأتذكر كيف تتقلّب اللحظات، وكيف نتصرف في الطواريء وفي الوقت العادي، وكيف أتعامل مع خوفي، وخوف من حولي.
وأحمد الله على الخير في الناس، وعلى إلهامه لنا التصرف المناسب في وقته، وعلى الدعاء الذي يضعه على ألسنتنا رحمة بنا.
وأسأله بكل ما أملك أن يعلمنا الصبر، وأن يربط على قلوب الحاضرين في الشدة بالصبر والطمأنينة.


ليست هناك تعليقات: