السبت، يونيو 12، 2021

محاولة 2


لطالما كانت القراءة منذُ وعيت نافذتي خارج عالمي المحدود. نشأت في أماكن متعددة في جدة، كان لنا أقارب في نفس المدينة والكثير من الأصدقاء. إيقاع الحياة رتيب ومريح ومتوقع. 

أول كتابين اشتراهما أبي خصيصًا لي كانا (زوجات النبي) و(غزوات الرسول) يوم جمعة بعد الصلاة من أمام المسجد. كنتُ في الصف الثاني الابتدائي تقريبًا. وقد تأثرتُ كثيرًا بالكتابين وأقسمتُ وقتها أنني لن أفعل شيئًا خاطئًا يتسب في حزن الرسول أبدًا. ولم أبر بقسمي طبعًا -أسأل الله العفو والصفح والغفران-.

تدفعني الكُتب دومًا لتجاوز حدود واقعي ذهنيًا، ثم محاولة تجاوزها عمليًا، وهو ما ينجح أقل كثيرًا مما يفشل. 

جعلني هذا في فترة طويلة من حياتي مثاليةً، حالمة، لا أعرف حدود قدراتي فعليًا. لم أكن مشغولة بتطوير قدراتي بقدر انشغالي باختبار قدراتي. فإن استطعت فعل شيء أو مجرد ظننتُ أنني أستطيعه انتقلتُ لغيره. 

في الدراسة كنتُ متفوقة بلا جهد كبير، ولما انتقلت لمصر، كنت كذلك بمقاييس المقارنة، لكن الدرجات لم تكن مكتملة كما كان الحال في السعودية. كان هذا أول إحباط تقريبًا. كنت في آخر عام في الابتدائية، ولم ألتحق في بداية العام، وحصلت على المركز الأول في مدرستي بمجموع يقترب من 92%. مع كل هذا الاهتمام بالحفظ والواجبات المنزلية الكثيرة وإيقاع الحياة المفاجيء والمزدحم والفوضوي في القاهرة.

تعلمت مهارات كثيرة في وقت قليل. تعلمت حضور مدرسة مختلطة مسائية تبعد عن منزلنا مسافة سبع محطات بالترام. تعلمت أنه لا أحد من الزملاء والزميلات والأقارب يشبهني في نمط حياتي، وأن التوقعات منك مختلفة وبعدد من نعرف.

والدتي هي من كانت معنا، ولم تختلط بالشارع يوميًا كما نفعل. والدي ظل سبع سنوات بعدها في جدة نراهُ شهرًا كل عام. 

ما زالت أمي في عالمها، تحاول قصارى جهدها أن تحفظ للبيت نظامه في المكان الجديد مع خمسة أطفال ذوو أعمار مختلفة.

***

ذكراي عن أبي أنه دومًا مشغول في العمل، ووقتنا الخاص معه كان غالبًا يوم الجمعة. كنا نذهب لشاطيء جدة بعد الفجر حتى لو دون أمي، نلعب الكرة على الشاطيء، نبلل أقدامنا إن أردنا، ثم نشتري المناقيش من فرن في الحمراء، ونعود للبيت لنفطر ويستعد أبي وإخواني لصلاة الجمعة، وقد أذهب معه وحدي أحيانًا.

عرفت سلاسل (رجل المستحيل) و(ملف المستقبل) من أصدقاء لنا كانوا أكبر سنًا، قرأتها لديهم ثم طلبتها من والدي.

واقتنى أبي لي عددًا من روايات (أرسين لوبين) وبعض المترجمات في الصف الخامس الابتدائي تقريبا. 

لوّن هذا عالمي، فإلى جانب مجلة ماجد، وبعض كتب الفراشة، وقصص من هنا وهناك، لم يكن متاحًا لي من كتب الكبار إلا كتب دينية قديمة أو معاصرة، وكان المفهوم ضمنًا أن القراءة لابد أن تكون مفيدة في الدنيا والآخرة. أي في النهاية كتب لها طابع فكري إسلامي أو علمي بحت. 

 لم يكن الإعلام عنصرًا في تشكيلنا، فلم نملك تلفازًا عن قناعة من الدتي أنه مُفسد ومليء بالأكاذيب. كانت أمي صغيرة في السن ومثالية وقارئة وأرادت تشكيل العالم الأمثل لنا.
لم تتركنا دون بدائل، فكان وقتنا مشغولًا بالأنشطة والاجتماعيات. وذكرياتي عن ذلك الوقت أغلبها مبهج وهانيء.
لما عشنا في القاهرة الصاخبة، كل شيء زاعق، وأنا غريبة عمن حولي، فكانت الكتب خير أنيس.

أسعدُ ما في القاهرة كان بيت جدي وهو قاريء مخضرم، وكاتب مُفكر، ذو مكتبة ضخمة تمتد في حوائط أغلب البيت، حتى الشرفة.
وأسعد الأوقات هي نقاشاتنا حول كتاب أو مقالة أو مراجعة لمسودة كتاب يعمل عليه أو خطبة جمعة.
اشترى لي جدي مجلة ماجد بانتظام، وكنت أقرأ عنده ما فاتني من جرائد ومجلات. بمصروفي بدأت شراء مجلة العربي الصغير ثم العربي للكبار، ثم كتب مكتبة الأسرة. وتعرفت على الكتب المستعملة، وبالطبع بين هذا وذاك كانت مكتبة المدرسة ثم المكتبات العامة بدءًا بمكتبة الخلفاء الراشدين، ثم مصر الجديدة العامة، حتى وصلت للجامعة لمكتبة المعادي العامة ومكتبة مبارك في الجيزة.

طورت القراءة علاقتي بالكتاب من مجرد أصدقاء متخيلين، إلى محاولة الكتابة إليهم أو مصادقة قراءهم. فكان طبيعيًا أن أسعى لوجود اتصال بالانترنت في بيتنا حتى أستطيع دخول منتدى روايات، لألتقى بقراء روايات مصرية للجيب. ومنهم تعرفت إلى أغلب أصدقاءي وأخلصهم حتى يومنا هذا.



ليست هناك تعليقات: