قادني القدر أول أمس لكتابات تشبه حالي، وتفسره، أو تقدم تفسيرات ممكنة لما أمر به. أحد الجمل العابرة تقول ما معناه (أنت تشعر بالوحدة لأن كل ما آمنت به انهار). ولأول مرة من شهور يبدو هذا التفسير منطقيًا.
لو وضعنا جانبًا أن لابد لكل منا نصيبه من الوحدة مهما بلغ حجمه، ووضعه في العالم في أي لحظة. فعلى الأقل شخصيًا وضعي كأم لفتاة صغيرة لا زالت تعتمد عليّ في كثير من الأمور، وزوجة لرجل رائع مسؤول يفعل ما بوسعه، لم يبررا هذا الشعور بالوحدة، واليأس من الحياة.
كان سؤالي المتكرر لنفسي الفترة الماضية هو التالي : ما سبب هذا الشعور المُضني بالوحدة؟ لماذا إذن أشعر بكل هذا الألم الطافح في وجهي؟ لماذا لا أستطيع أن أباشر أعمالي اليومية البسيطة دون أن يقطعها هذا الشعور بالانفصال عن النفس وعن الواقع؟ هل أُعرّف نفسي بالآخرين فقط، ولا أعرفني دون الآخرين، ولم يعد هذا كافيًا؟
***
ولأن الأقدار عجيبة، والأيام لا تخلو من مفاجئات، فقد اكتمل الأمس بأكلي لأول أصنامي المصنوع من العجوة.
لمن يعرف القصة المشهورة -غير المثبتة- أن عمر بن الخطاب (رضي الله عنه) ضحك لما تذكر أنهم في الجاهلية كانوا يصنعون أصنامهم من العجوة، فإن جاعوا أكلوها.
الآن أرى المجاز في القصة. كل تصور مغلوط تبنيه عن نفسك أو عن العالم هو صنم من العجوة، إن جعت ولم تجد بُدًّا إلا هو ستأكله لتنجو.
طيلة الأشهر الست الماضية كنت في حالة معينة من التشتت والتعلق والضياع الشديد، لا أعرف أين أبدأ وأين أنتهي، ولا أين حدودي؟ وما الذي أبحث عنه؟ وما الذي أتألم منه بالضبط؟ وما الذي أثور عليه؟ تهتُ عن نفسي وعن الطريق، وكابدتُ المشقة في نفسي وفي الطريق.
في ذلك الظلام الدامس، والسواد البهيم مدَّ لي أحدهم يده، فتشبثتُ بها، وتعاملتُ كأنها الخلاص الذي أتى على غير موعد.
أثناء تشبثي هذا، انقشع الظلام شيئًا فشيئًا، دخلتُ من كل باب مفتوح أمامي دون حذر، وتعلمتُ كما يتعلم الطفل أول دروسه عن النار. وإن كان كل ما عرفته وآمنت به يومًا (فيما عدا الإيمان بالله الواحد) قد اختل، والطريق الذي كان واضحًا قد اختفى، والتعريفات التي كنتُ أعرّف بها نفسي، وأعرف بها الأشياء حولي قد تغيرت، فعلى الأقل عرفت ما هو ليس لي، وما لا أريد أن أكونه أو أفعله.
أكلتُ صنم (حواء أصل الخطيئة)، وهو جذر ذلك الإحساس بالعار الخفي (أو بالذنب الذي أعتذر عنه من فترة للثانية دون مبرر) أني مصدر الفتنة والغواية (واللي جايبة آدم أرضي!). فحتى إن كانت عقيدتي الإسلامية -كما أفهمها- بريئة من هذه الفكرة، وعقليًا لا أرى لها أي منطق متماسك، فكنت أصدق بها لا واعية لما تشربته من تعامل المجتمع معي في أبسط الأمور، وتلك التنشأة التي تراني كفتنة متحركة مسؤولة عن نفسي، وعن حجب فتنتي، والحذر من استغلالها مثلا أو إيذاء أحد بها، وأهم ممارسة سيُحكم علي بها هو ماذا أُغطي وماذا أكشف، وكيف أتحدث وأضحك، وكيف أتفاعل مع الرجال خصوصًا، ومع العالم عمومًا. وهي أمور يومية نتجاهلها بوعينا لأننا اعتدناها وتعديناها، لكنها موجودة تحت الوعي الظاهر، تُقسِّم انحيازات الناس، وتحدد الطريقة التي سيتعامل بها الناس معي في الشارع، ولا دخل لي فيها إلا برد الفعل. ورغم أنها منتهية ومحلولة، إلا أنها تطفح في وجوهنا بين الحين والآخر.
أنا كأنثى لستُ أصلًا للفضيلة ولا للرذيلة. ألهمني ربي فجوري وتقواي، أفلحتُ إن زكيتُ نفسي، وخِبْتُ إن غطيتُ على نفسي الكريمة وقمعتها، ودنوت من النواقص والعيوب وزينتها لنفسي _حتى أترك تقويمها، وحتى أُسكّن بالحلو اللحظي مكابدة الطريق_، وتركت التوبة خجلا أو مللا أو يأسًا.
وفي كل علاقة أيًا كانت مسماها تقع المسؤولية على عاتق أطرافها بالعدل. فليس منطقيًا ولا عادلًا أن أُحمّل نفسي فوق طاقتي من الذنب، لأسباب ليست في يدي.
وهنا وقفة: لا بد من تحديد العوامل التي بيدي والتي ليست بيدي، لأحدد ما يمكن الاشتغال عليه وما لايمكن، كنقطة انطلاق مهمة في النمو وتزكية نفسي، واتخاذ القرارات. إذن كبداية لمعرفة النفس لا بد من تعريف البديهيات وتذكير النفس بها. لئلا نكتب على الماء، وننحت في الهواء.
قد تمضي في حياتك كلها، دون أن تقف عند صدماتك وآلامك التي لا بد منها لكل إنسان، تتألم قليلًا وتمضي في حياتك كما وجدت آباءك بتعديلات ضئيلة هنا وهناك (وخلاص!). وتعيد تدوير الصدمات وتوريثها لمن بعدك (بتشوهات إضافية بديعة).
وقد يأتي عليك أوقات عاصفة تُقلّب لديك القديم والجديد، وينعم الله عليك بوعي إن صبرت ولو قليلا على الألم الكاسح الذي قد تفاجئك به الحياة، وسألته أن يهديك ويرشدك ويساعدك. ومن ثم تكسر بعض الحلقات المفرغة هنا وهناك، التي تعيد نفسها بين الأجيال، وتعطل تقدمهم، أو تعلمهم.
***
الآن أنا في محاولة حثيثة للاتصال بواقعي، وبجعله يشبهني أكثر، ويشبه ما أعتقد فيه. لا أعرف لأي مدى سأنجح. لكني سأستمر في السعي، والدعاء بالتوفيق فيه.
اتسع قلبي لفهم أوسع عن المحبة والتواصل، محبة الله، ومحبة البشر. ومحبة نفسي (أو التواصل معها مبدئيًا) كإنسان يحاول ويتعثر ويتعلم ويسعى، وكأنثى لم تتصل بنفسها جيدًا، ولم تسمع نفسها بما يكفي، ودرسها الآن أن تعيد الاتصال بهذا الجزء فيها.
تعلمتُ أيضًا أن الاندفاع والعجلة ليس فيه أي خير إلا أن يكون في خير واضح كالشمس. أحيانًا يختلط صوت قلبك بصوت هواك -أو بالتعبير الحديث صوت الإيجو-، ولكي تفصل بينهما لا بد من أن تهدأ، وتنعزل قليلًا، وتطلب من الله أن يرشدك، وسيفعل.
وكما قال أستاذ لي من قبل، كقاعدة عامة: تعامل مع كل إجابة مبهرة وفكرة لمّاعة تأتيك على أي سؤال في طريقك برميها في القمامة فورًا! اعطِ نفسك فرصة لفحصها، اجعل الانبهار يزول بالفحص والبحث، إن اختبرتها بالنفي وبحثت فيها ستعرف إن كانت فكرة أو إجابة أصيلة وحقيقية أم لا.
كل مرة كنتُ أسمع المعلومة ناقصة. يُقال انعزلي وتأملي وتنفسي وستعرفين صوت قلبك. المنقوص هنا هو أن الانعزال مع نفسي لأسمع نفسي في كل مرة يصل بي إلى حالة تشبه الزِن. فيها من العدمية ما فيها. كل شيء متصل، وكل الأمور وجوه لأمر واحد، ولا بأس إن اخترت أي شيء فكل الاختيارات سليمة. ويعجبني ذلك وأجد فيه جزءًا من الحقيقة، لكني لا أتقدم في حياتي، ولا أستطيع اتخاذ قرارات مهمة بسيطة.
أو قد يحدث عندما أنعزل بنفسي وأفكاري أن أخلط بين صوت قلبي النقي، وصوت هوايَ الذي يريد أن يسعد السعادات الملموسة الآنية، ويبرر لها بكل ما أوتي من قوة إقناع، ومن إغراءات بالراحة والاستمتاع -ومش عيب يعني جربي وهاتعرفي-، بس لا بد من الموازنة بين صوت الإيجو الأعلى والإيجو عشان نعيش حياة متوازنة مسؤولة-.
أظن أن الناقص في المعلومة هنا، هو أنني إن أنعزل، فلتكن خلوة مع الله، أنشغل فيها بذكره والتفكير فيه، فتتيح لنفسي النمو، وتنقيها، وتريها إلى أين يشير الألم أو الذنب، فتبصر ما هو أقرب لي وأنفع لحياتي هنا وفي الآخرة.
كما يعطي الانشغال بالله ومناجاته الدائمة الخفية راحة للنفس من حروبها المستعرة الدفاعية للبقاء على قيد الحياة، وعدم الانسحاق، وتتركها تسترخي قليلًا من القتال بالطرق البدائية البسيطة اللاواعية التي تعيد تدوير آلام ومخاوف الطفولة والشباب التي لم تُمحّص بعد.
لا زلتُ متعثرة في بداية الطريق، لكني اكتشفت أن فكرة الانشغال بالله عن النفس هذه فكرة صحيحة بالتجربة، حتى وإن كانت تجربتي في بدايتها. وأحب أن أسجلها هنا، لكي أراها يوم تتقلب نفسي وتنسى كالعادة.
***
ثم مسألة التقبل هذه، أو قبول النفس على عيبها أجدها صعبة جدًا عليّ، رغم قبولي لِعلّات الآخرين والنظر لهم دومًا بعين الرحمة.
الآن شيئًا فشيئًا أقول لا بأس إن شملتُ نفسي بشيء من الرحمة، حتى وإن احتاجت التهذيب، فلأصاحبها بالمعروف، ربما هو الأنسب لها بدل هذه القسوة التي أقسو بها على نفسي، لتضيف للقسوة المجانية الموجودة في هذه الدنيا.
ما أعرفه في هذه اللحظة، أن من الصعب التوقف عن التجارب طالما أنت حي وتتحرك. المهم أن تتعلم وتعي وتظل في حالة مستمرة من العودة (أو التوبة)، التي تعيدك لنقطة الاتزان المطلوبة: التواصل مع نفسك/التواصل مع الله، بينما تمضي في مصيرك.
وفي كل مرة يمكن للواحد منا أن يقول: لعلنا ننجو، لعلنا نصل، حتى ننجو ونصل.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق