الأربعاء، مارس 20، 2024

بعد الرضا

أيام غريبة تلك التي أعيشها. لحظات الفرح أو الراحة فيها تبدو كغيم عابر يتكون ولا يكتمل. تدفعني الأحداث العامة للزهد في أي طموح، وتَزيد نظري لهذي الدنيا قتامة. والأحداث الخاصة ساكنةً. أنا في مقام الرضا ساكنةٌ، لكني لم أرقَ بعدُ لحال الاطمئنان، حيث الرضا الممزوج بالسعادة. 

يقولون أن هناك فارق بين الشعور/ الحالة، والمقام/الحال، فأنت تتقلب في يومك من حالة لحالة، حزن وفرح ومفاجأة وملل ودهشة وغضب وتأمل وحيرة ..إلخ. بينما المقام أو الحال فهو الشعور الأكثر استقرارًا بحيث يوجد في خلفية كل شعور عابر. فإن كنت في مقام الرضا فأنت تحزن وتفرح وتغضب وتمل وتحتار وتتأمل وتضيق وتتسعُ وأنتَ راضٍ. 

فنحن الكائنات البسيطة المركبة نستطيع أن نشعر ونحس بطبقات من المشاعر، كما أن المشاعر أصلا ترتدي أقنعة. فيمكن للخوف أن يرتدي قناع القلق أو الشك أو الغضب، وأنت تعرف الأصل والقناع إن تأملت نفسك في هدوء، وتتبعت حالك.


أشعر بإنهاك المسافر في البحر. وقد جربتُ السفر فعليًا عبر البحر مرةً في حياتي. كانت غرفتنا في الدور السادس، وتحتوي زوجين من الأسرّة، كل زوج هو سرير ذو دورين، وهما على يمين ويسار الغرفة يفصل بينهما نافذة متوسطة الحجم نرى منها البحر الملتحم بالسماء. إن اشتدَ الموج قليلًا نتقلب من اليمين لليسار كقوارير نائمة في صينية يمسك بها طفل، ويميلها يمينا ويسارا ويمنعها عن السقوط حد الصينية فقط. أذكر الغثيان وقتها. 

كما أذكر الليل البهيم حيث سواد لا ترى معه شيء، وأذكر الصالة المشتركة أو المطعم، ودرجة (البولمان) التي هي عبارة عن كراسي فقط ككراسي حافلة الـ(سوبر جيت)، ولا أعرف كيف يبات عليها المسافرون 3 ليالٍ. ومغامراتي أنا وأخويّ لنرى البحر من سطح الباخرة.

أذكر أنها كان اسمها (السلام 98)، لا أذكر الرقم بالضبط -شيئًا ما في التسعينات-، وأذكر حادث الغرق الذي حدث لباخرة مماثلة بنفس الاسم. وأذكر تتبعي لأخبار الناجين، ولا مبالاة الحكومة بالناس، وقصص الباحثين عن أهلهم ولو جثثًا ليدفنوها. حكت لي صديقة سعودية عن امرأة ظلت تسافر كل ما أتاها خبرأو شبه خبر عن جثة فقيدها. وأذكر قصة عبدالله الطوخي في كتابه (نبع الينابيع) الذي قرأته وأنا في الثانوية عن ترحيل أهل النوبة وتغطيته لهذا الحدث عن طريق سفره في مراكب تنقل الأهالي المُرحَّلين -فيما أذكر-، حكى عن تلك المرأة المكلومة فقدت ابنين لها، وهي راكبة دائمة معهم على المراكب في الذهاب والإياب لعلها تجدهم.

لا أذكر السويس إلا كميناء، والميناء إلا كمكان نبدو فيه صغارًا جدًا ونحن ندخل سفينة نوح، والشاحنات الضخمة تدخل أمامنا لقاع السفينة، وخالي الذي صحبنا في هذه الرحلة وقد أخرهُ الأمن يسألونه ويتأكدون أنه ليس خطرًا على الأمن العام (آه من الأمن العام وخدش حياء الأمن العام)، وتأكدهم من سلامة أوراقه ونواياه بعد أن تحركت السفينة ليلحق الباخرة التي تحركت بقارب أمن سريع يقترب منها ويسقطه، ويقفز من القارب للباخرة. 

لا معنى لأي شي هنا. لا معنى مخبأ في بطني. أتذكر الآن كأنها أفلام، ربما أصورها يومًا ما. وربما أكتبها، وربما أموت بعد أقل من عامين كصديقتي -ماتت حبيبتي وعمرها أربعون-. ربما لا أموت ولا أفعل شيئًا وأموت كما يموت الشجر.

لا معنى لأي بحث أقوم به. هذا ما توصلت إليه بعد لهاث وركض. أو لا معنى محفوظ من قائمة المعاني التي لقنوها إيانا، والتي إن أختار منها الاختيار الصحيح سأنجح في الاختبار (وأدخل كلية قمة وأكسب فلوس وأقب على وش الدنيا).

 المعاني كلها مجردة، وأنا تائهة الآن. سأمتُ المجرد. أريد معنى أقضمه وأتذوقه وأشمه. أريد معنى ألمسه وأعرف حرارته، أريد معنى أتحدث إليه ويتحدث إلي. في الحقيقة ..لا أريد حديثًا. سأمتُ الكلام. صمتُ لعشر سنين من قبل ولم أكتب -رغم أني ما إن أضع يدي على الحروف حتى يخرج الحديث وحده أحيانًا وله معنى وأحيانًا أكثر بلا معنى يفيد أحدًا-، ربما من الأسلم والأجمل أن أصمت ثانيةً - لن يؤذيني على الأقل. لم أعد أريد أن أقابل أُناسًا، أخشى أن أشعر بالألفة وأسكب قلبي، وأنا لا أريد لقلبي أن ينسكب ثانيةً أبدًا. 

الآن أهرب من الشعور بأي أُلفة، فالراحة التي تأتي معها تحقنك بالأمل بلا هدف، الأمل المُجرد، الأمل بلا هدف، والذي قد يدفعني للجرأة حد النزق، ثم....نعم (سقوط على أم رأسي كما هو متوقع!)

أنا مستكينة هنا في هدوء، لا أكلم أحدًا، ولا يكلمني أحد، أكتفي بمعاركي اليومية التافهة، وأفعال البقاء المهمة المملة كلها. في السكون كشجرة أقلل أضرار وجودي على الأرض. لو استطعت تقليص وجودي أكثر سأفعل.

أنا أعلم أنني وسط الرحلة، ربما أشعر بالغثيان والدوار الآن. وعلي أن أهدأ وأتقلب كقارورة تتدحرج على سطح ما، تسقط من أعلى لأسفل، وقبل أن تسقط لتنكسر بالضبط، ينقلب السطح الأسفل لأعلى وتدور تدور تدور وهي تفكر(هذه المرة سأسقط! هذه المرة سأنكسر!). لكن السطح يتقلب من أعلى لأسفل بانتظام بندول فيما يبدو أنه بلا نهاية.

يبدو الشاطيء بعيدًا، يرتاح وراء الأفق. أعلم أنه هناك وإن لم أكن أراهُ الآن. أقول لنفسي أُذكّرُها: قدم أمام قدم، ونَفَسٌ وراء نَفَس*، وذِكْرٌ الله. هكذا نمضي في حياتنا إلى أن يحين الأجل.  

---
* في نهاية مسلسل Expats تقول البطلة كلامًا مشابهًا عن كيفية الحياة مع الألم: "We put foot in front of other, we take breath after another, we hum!".


ليست هناك تعليقات: