الخميس، مارس 28، 2024

ما الذي تراه عندما ترى كوب ماء؟

 

Hegel's Holiday- 1958 (René Magritte) 

قرأتُ لصغيرتي قصة قبل النوم عن كوب ممتليٌ نصفه ماءً تختلف الشخصيات على تسميته، فمنهم من رأى النصفَ المملوءَ ماءً، ومنهم من رأى النصف الفارغ من الماء، ومنهم من رآه مملوءًا بالكامل نصفه ماءٌ ونصفهُ هواء.

 بينما تمعن فيه (ماجريت) يومًا ورسمه 100 مرة، وظهرت بقعة لون تحتها ظل يفكر ماذا يفعل فيها، وبعد كل هذه المسودات انقلبت البقعة مظلة، وهكذا جمعت اللوحة المسماة (أجازة هيجل) بين نقيضين في علاقتهما بالماء: الكوب والمظلة، الكوب يحتوي الماء، والمظلة تنبذه. وكعادة (ماجريت) في لوحاته المثيرة للتفكير يختار أسماءً توسع من التأمل وتُثري التفكير. فهو يسميها (أجازة هيجل) ربما لتستدعي ما يمثله (هيجل) في ذهنك، وما يستدعيه هيجل في ذهني الآن على الأقل هو فكرة "تأمل التاريخ" -والتاريخ هنا هو التاريخ الشخصي- ومقولته: «تاريخ العالم ليس إلا تقدم الوعي بالحرية.»

أحب أن يرزقني الله سعة الرؤية بجانب سعة الصدر وسعة الرزق، وأدعو بذلك. أن يمكنني رؤية الحدث أو التجربة أو الصورة متكاملة، أن أرى الصور داخل إطارها وخارج إطارها، أن أرى الامتلاء الظاهر والباطن حسب ما تسمح به قدراتي البشرية.

أعلم أني كبشر متغير متأثر بآلاف العوامل الداخلية والخارجية، لا يمكنه في لحظة معينة إلا التركيز على جزء فقط من الصورة. لكن أتمنى أن أظل قادرة على استيعاب ما هو خارج إطار الصورة الواضحة في أي موقف أو شخص، بما يحقق التوازن ويحفظ السلام النفسي.

 ***

أريد أن أتذكر أنني لستُ خالية من الجمال أو المهارات أو رجاحة العقل (لي نصيبٌ متفرد كغيري). ولا داعي لإثبات أيٍّ من ذلك لأي شخص مهما كان. لكن عليّ أن أنتبه لأفعالي، فالفعلُ هو المحك الحقيقي للمهارات والأفكار والأقوال. وهو ما يختبر المباديء، ويثبتها أكثر، أو ينفيها. والفعل هو واقع الفكرة، مهما كان قصوره. وغالبًا ما تخبرنا الأفعال عن أنفسنا أكثر مما تخبرنا به أفكارنا وتصوراتنا. 


 أريد أن أتذكر أن أثمن مافي هذه الحياة هو الوقت. ومن الحكمة احترام إيقاعه، وأوانه، وفواته. وأن مدة كل شيء مكتوبة لكل واحد منا، ولا يمكن تغيير ذلك.

ما يمكن تغييره هو الانتباه لما يُشتت عن الطريق الذي نود السير فيه. فلا يمكن لمسافر أن يصل لوجهته وهو يتوقف عند كل محطة، ويسمح لكل عابر أن يستبقيه قليلًا. وإن حدث فلا بأس، فليعد ضبط نفسه ويواصل سيره دون مزيد تضييع وقت في الندم على ما فات.

أريد أن أتذكر بكل الوسائل من أنا بالضبط، وألا أحبس نفسي في تجاربي العابرة، أو حوادث الزمان الماضية والحاضرة.  أحب أن أظل مستوعبةً لكوني عابرة سبيل، وطالبة علم، وباحثة عن الحق، وناشدةُ للجمال، وساعية للفهم، ومُحبة لله، والعالم والناس. وأن لي أدوارًا في هذه الحياة التي أعيشها، قدري فيها أن أملئها. فلأقبل المكتوب لي فيها، فهذا أدعى لسلامي وسويّتي النفسية.

 وأن هناك أدوارًا قدرية، وأدوارًا اختيارية. فالأدوار القدرية لا فِكاك منها، وإن كرهتها أو تهربت منها، فلن يغير ذلك شيئًا من ثبوتها مثل دوري كأم أو ابنة. أما الأدوار الاختيارية فليس لي فيها إلا الإحسان في اختياري بداية، والإخلاص في أداءها ما دمتُ فيها.

أن أركز على ما يمكنني تغييره في نفسي وعاداتي وظروفي، بدل قضاء وقت في تمني تغير ما لا يد لي في تغييره.

 ***

وأريد أن أتذكر أن أصل الدنيا العطب والنقصان لا الكمال. ولكل نصيبه من الصدمات والإساءات، ولا يوجد من أفلته هذا النصيب.

وأن الألم نصيبنا أثناء النمو، وأثناء الولادة، وبعدها، وقبل وأثناء لحظات المتعة أيضًا. وأن ما يصيبنا منه لم يكن ليفلتنا، وما أفلتنا منه لم يكن ليصيبنا. وأن لنا نصيب من الفرح والهناءة والسكينة والطمأنينة ولو للحظات تبدو أثيرية. فلنحتفل بها ونقدرها قدرها.

وأن أغلب الابتلاءات هي كمسماها ابتلاءاتٍ، واختباراتٍ، وخطًى كُتبت علينا (ومن كُتِبَت عليه خُطًى مشاها)، هي ليست عقابًا ولا (تخليص حق ما). بل مجرد (ابتلاءات) أو اختبارات مكتوبة علينا، وهي في أصل الحياة وليست خارجة عنها. 

وأن كل كمالٍ نلاحقه، فإنما نلاحق صورة أو ذكرى: صورته واضحة في أذهاننا أحيانًا، وبلا صورة ثابتة أحيانًا أخرى، وأما الذكرى فهي لوجودنا الأولي في الجنة وقت خلق آدم. ننسى أننا في دار النقصان، ولن نعود للجمال المطلق إلا في الحياة الآخرة. 

 ***

وكل محسوس ومُجرّب مرّ علينا، واستوعبناه يزيد من إدراكنا لما وراء هذا العالم الظاهر، ويوسع مداركنا لنعرف أكثر ما لا يُعرف بالقياس المادي، ونستوعب المجرد أكثر، ونتجاوز أنفسنا المحدودة، ونعرف الله أكثر.

تعلمتُ قريبًا أن الإنسان يرتقي من مرحلة إدراكه المحسوس فقط (منذ أول ولادته حتى 7 سنوات تقريبًا)، ثم يبدأ شيئًا فشيئًا في إدراك الأفكار المجردة. وأن معرفتنا بالله مثلًا تتأثر بعلاقتنا بأبوينا أيضًا، فنكوّن في لاوعينا صورة نفسية لله، لها علاقة مباشرة بخبراتنا مع والدينا. وإن لم نعِ جيدًا هذه النقطة، سنظل نميل "نفسيًا" لصورة الله (الرحيم) أو (المنتقم) أو (الجبار)، الحاضر أو الغائب حسب تفاعلنا الداخلي مع النموذج السائد الذي تلقيناه من أبوينا.

كذلك ترجمتنا العميقة للحب، وكيف نتلقاه، ومدى استحقاقنا له عمومًا -كل ذلك مرتبط بما عرفناه وتلقيناه وقيل لنا أنه الحب ونحن أطفال. لذا كما نستقل عن أبوينا بحياتنا، وأفكارنا - يمكننا أن نستقل بوعينا.

يحدث هذا عن طريق استكشاف لاوعينا عن طريق مراقبة سلوكياتنا، والانصات لما تشير إليه مشاعرنا، وما تثيره فينا الحوادث الكبيرة في حياتنا، وسماع الملاحظات البناءة من الأصدقاء الموثوقين مثلًا، ومساءلة أفكارنا، لنفك شيئًا من التشابك -قدر استطاعتنا- الذي يعوقنا أو لم يعد صالحًا لنا.

***

أكتبُ كل هذا لأُذكر نفسي، وأساعدها فالكتابة تساعد على التفكير، وتطلق سراح الخواطِر لتأخذ مجراها، إما أن تؤكدها الأحداث القادمة، أو تنفيها، أو ربما تضيف عليها وتطورها. 

والإنسان منا لا يمكنه أن يكون في حالة دائمة من الوعي المستنير، أو التأمل، أو الإثارة، أو الملل، أو الحزن، أو الفرح، أو أي حالة أصلًا..في كل يومٍ -وأحيانا في الساعة الواحدة- نأخذ من كل حالة شيئًا، وهذه طبيعة الحياة. 

وأنا هنا أكتب كمن يصور بالكاميرا: أحفظُ لحظة معينة وأؤطرها، ليمكنني أن أعود إليها وأتذكرها بعد ذلك وقت حاجةٍ أو غفلة. 

Stalker (1979)
Dir. Andrei Tarkovsky


ليست هناك تعليقات: